ملخص:
تعالج هذه الورقة موضوعا هاما شغل مختلف الفلاسفة والمفكرين عبر مر العصور وكر الدهور ، متمثلا في المعرفة الإنسانية وما رافقها من سجال حاد بشأن نصيب كل من العقل والحواس والحدس في إنتاجها ، فهناك من يغلب دور العقل ، وهناك من يرجح دور الحواس وهناك من يقول بدور الحدس ، في حين يدعو فريق آخر إلى الجمع بينهما على اعتبار أن المعرفة الموضوعية لا يمكن حصولها إلا بتضافر دور العقل والحواس ، غير أن العقل والحواس مهما كانت أهميتهما إلا أن المعرفة الحاصلة من خلالهما تبقى غير كاملة على اعتبار أنها تركز على عالم الشهادة وتتجاهل عالم الغيب ، وهو ما أدى إلى ظهور المدرسة التكاملية التي تدعو إلى الجمع بين هدايات العقل والتجربة والوحي.وستحاول هذه الدراسة تقديم قراءة في هذا الموضوع في ضوء الدلائل والحجج التي يقدمها أنصار كل رؤية ابستمولوجية في التأسيس لموضوع المعرفة .
يميل الإنسان بجبلته إلى حب الاستطلاع , ومعرفة ما يدور حوله من تحولات وما فتىء شغفه يكبر منذ الأزل لتفسير مختلف الظواهر, قصد تكوين صورة عن نفسه وعن الآخرين , يتمكن على ضوئها من تكوين ذخيرة معلومات تساعده في تشييد إطار مرجعي يتكئ عليه للتواصل مع محيطه , لقد واجه الإنسان البدائي مصاعب جمة في صراعه مع – ما يسمى -قوى الطبيعة واستشعر أهمية كشف أسرارها وفهم نواميسها ,
ولم يجد عن المعرفة بديلا يهتدي به في التعامل مع مفردات الواقع الاجتماعي والتعايش مع مختلف التحولات التي تطرأ عليه , لأن الواقع أشبه ما يكون بالنهر الجاري الذي لا يعرف الركود ، يتعرض وباستمرار للتغيير والتجديد . مما يستدعي ضرورة تجديد معارفنا لتواكب صيرورة التحولات التي تنتاب مركبة الحياة من حولنا.
1- طبيعة المعرفة :Nature of Knewledge
المعرفة في اللغة مشتقة من الفعل عرف بمعنى علم وأدرك , والمعرفة الاسم الدال على معين وضده النكرة . وفي لسان العرب يطابق مفهوم المعرفة مفهوم العلم , وكذلك في القاموس المحيط حيث نجد العرفان بمعنى العلم , وعلم بمعنى عرف .
أما من الناحية الاصطلاحية فقد واجه العلماء صعوبات جمة في الوقوف على تعريف جامع مانع بالنظر إلى أن المعرفة كلمة عامة وشاملة تندرج تحتها أشياء كثيرة بما في ذلك الخرافات والأساطير التي ما تزال حتى أيام الناس هذه تتغلغل في تفكير الإنسان وتحتل مساحات مهمة من تلافيف العقل البشري .
ونجد في قاموس علم الاجتماع أن المعرفة فرع من علم الاجتماع تهتم بدراسة الترابطات الوظيفية بين البناءات الاجتماعية والعمليات الاجتماعية من جهة,والأشكال المحددة لمحتوى المعرفة والأنظمة الأيديولوجية من جهة أخرى.(2).
وهكذا يتبين لنا أن المعرفة هي الجسر الرابط والحبل الواصل بين الأبنية الاجتماعية والعمليات الاجتماعية على مستوى كل الأنساق المشكلة للنظام الاجتماعي , وبالتالي فهي اللحمة التي لا غنى عنها والإسمنت المسلح الذي يكسب قوام المجتمع ثباته وتماسكه . فضلا عن كونها الغذاء الحيوي الضروري الذي لا بد منه للعقل البشري الساعي على الدوام إلى تبديد الغموض الذي يحيط بحياة الإنسان ، وبالتالي فإن المعرفة هي حاجة تتمثل في سعي الفرد للحصول على صورة واضحة منظمة ومفهومة عن نفسه وعن العالم الخارجي المحيط به تصبح الإطار المرجعي لسلوكه.(3).
فالمعرفة وفق هذا التوصيف عبارة عن مرآة عاكسة نبصر من خلالها عالمنا المزدوج الداخلي والخارجي ونسترشد بمفرداتها في تفكيك مغاليق هذا العالم ، فهي تنتقل من العالم الخارجي(المجتمع ، الطبيعة ، الكلمة المقروءة ، المسموعة ، المرئية إلى الإناء الداخلي غير المرئي وهو العقل . والمعرفة أشبه بصرح أسسه البيانات ، وأعمدته المهارات ، يقطنه عقل مفكر باحث عن الحقيقة بمنهج يرشده في دروب العلم . وهناك من يذهب في تحديد الفرق بين العلم والمعرفة إلى القول بأن المعرفة هي إدراك الحقائق ، بينما العلم هو فهم الحقائق.
وقد توصلت ندوة' نحو إستراتيجية ثقافية إسلامية في مصطلح المعرفة" إلى ضبط تعريف المعرفة كما يلي هي كل معلوم خضع للوحي أوالحس أوالتجربة (3). وهي رؤية أكثر شمولا وإحاطة تستلهم المعرفة من مختلف منابعها ، سواء تعلق الأمر بتأمل الوحي الإلهي أو بملاحظة واستقراء السنن والظواهر الكونية كرسائل تستنبط منها المعرفة التي يصفها البعض بأنها عملية تتعاون فيها وسائل الحس الظاهرة والباطنة , والآلات والأدوات التي تستخدمها الحواس , وموازين العقل الفطرية والمكتسبة , ومعارفه السابقة التي اكتسبها بنفسه , والتي تلقاها من غيره مما اكتسبه الآخرون من معارف , يضاف إلى ذلك ما يوحي به الله لأنبيائه من معارف تكون لديهم علوما يقينية أو شبيهة بالعلوم اليقينية التي يكتسبها الناس العاديون بحواسهم.(4).
1-2-مصادر المعرفة: Ressource of Knewledge
1-2-1-المعرفة فطرية:
يرى الفيلسوف اليوناني سقراط أن العلم موجود بالفطرة في النفس الإنسانية وما علينا إلا البحث في طريقة استخرجه وتوليده من العقل الخالص ، حيث يقول: إننا نولد الأفكار ونمارس مهنة أمه القابلة . والخطوة الأولى في طلب الحقيقة بناء على طريقته في التوليد هي التخلي عن الآراء الموروثة كلها في سبيل العودة إلى صفاء النفس الإنسانية فنستخرج منها كل العلوم والمعارف .
وعلى هذا النحو درج تلميذه أفلاطون
[*]Platoالذي يعتقد أن الإنسان فطر على معرفة الأشياء , واستنادا إلى مذهبه المثالي يرى أفلاطون أن موضوع المعرفة هو الثابت الذي لا يتغير , وقصد بهذا الثابت عالم المثل[†] أو عالم المعاني الكلية والحقائق الضرورية.(5). وكل ما يفعله الإنسان هو أن يتذكر هذه المعاني والحقائق الكامنة في عالم المثل والتي فطر على معرفتها و يعد نسيان هذه الحقائق دلالة على الجهل واللامعرفة .
وبناءا عليه" فالأفكار فطرية وكامنة عند الأطفال , يولدون وتولد معهم , ولكي تصل الروح إلى المعرفة والحقيقة التي احتجبت عنها بنزولها من عالمها, عليها أن تتذكر وتسترجع ما كانت تعرفه مستعينة في ذلك بالعقل.(6).
ويدعم ديكارت المذهب العقلاني في إنتاج المعرفة معتقدا أنه بالإمكان الظفر بالحقيقة من خلال الاعتماد على قدراتنا العقلية وحدها ، لأن هذه الحقيقة هي عبارة عن أفكار وتصورات مودعة سلفا في عقولنا.ونعرف عنه مقولته الشهيرة : وراء العقل والفكر نحن لا نعرف شيئا.
غير أن القرآن الكريم يقرر خلاف ذلك ويؤكد أن الإنسان خلق لا علم له بشيء وهُيأت له جملة من الأسباب لتحصيل المعرفة وفي ذلك يقول تعالى:]والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون:78).
[color=green]
1-2-2-المعرفة مكتسبة:
على عكس منحى أنصار نظرية المعرفة فطرية يرى كل من هيراقليطس وأرسطو أن كل المعارف البشرية مكتسبة ، وتساعد الحواس على اكتسابها ، ففاقد البصر لا يستطيع التمييز بين الأبعاد أو الألوان ، لذا فإن الحواس هي منافذ المعرفة الأساسية للعقل البشري الذي تتم فيه عملية المعرفة ، فإذا فقد الإنسان الحس انعدمت المعرفة.(7).
يرى أتباع هذا التيار أن المعرفة لا يمكن أن تحصل للإنسان إلا بواسطة الحواس فالإنسان يولد وعقله يشبه الصفحة البيضاء الخالية من أية معان أولية أو أفكار فطرية , وعندما يبدأ في الإحساس تنتقش عليه الانطباعات الحسية المختلفة ويبدأ في تكوين أفكار عنها,فالإحساس سابق على التفكير, ولا يوجد شيء في العقل , ما لم يكن قبل في الحس , والانطباعات الحسية ما هي إلا مجرد تلقي لكل ما يكتب عليها فقط وهي ناحية سلبية , ولكن للعقل وظيفة أخرى إيجابية يقوم فيها بربط هذه الانطباعات الحسية لتكوين صورة ذهنية أو تكوين فكرة عن المدركات الحسية.(8).
ومن ثمة فالحواس عند أصحاب هذه الرؤية لازمة أساسية لا غنى عنها لحصول المعرفة فهي منافذ مفتوحة يطل من خلالها العقل على الوجود والمنبع الرئيس الذي يزود العقل بالصور الذهنية والمدركات الحسية التي يترجمها العقل بدوره - بعد إجراء عمليات تنسيق وتوظيب على الرسائل الوافدة إليه- إلى معارف , فالحواس هنا بمثابة النواقل التي تُؤمن وصول المواد الأولية إلى العقل كي يتسنى له تصنيع المعرفة وفي غياب هذا التموين يصاب عمل العقل بالشلل . و ذهب الباحث "جون لوك" إلى حد اعتبار المعرفة الحسية معرفة يقينية لا يمكن تجاوزها.
ومع اعترافنا بأهمية هذه الذخيرة الحسية التي ترد إلى العقل ، فإنها تظل في غيابه ، غير ذات جدوى ، لأن العقل هو الذي يعطي معنى لهذه المحسوسات فيجعل الرؤية واعية ، والسمع بتدبر وإمعان ، فهذه المؤثرات الخارجية حينما تصل إلى حواسنا ندركها بالعقل وتصبح ذات معنى ، ولا تكون مجرد إحساسات عمياء. ولذلك جاء في قوله تعالى:]لهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أظل أولئك هم الغافلون[( الأعراف:179). وبناء عليه فالإدراك الحسي هو الصورة المرتسمة في الوعي العقلي ، مؤلف من الرسالة الواصلة إلى العقل مع رد فعل العقل في تمييزها وإضافة شيء إليها أو حذف شيء منها ، وهو مماثل لإدراك معنى كلمة بذاتها.(9).
1-2-3-المعرفة فطرية ومكتسبة:
يرى مناصروا هذه النزعة التوفيقية أن كل من الحواس والعقل عاجزين على تأمين المعرفة بمعزل عن جهود بعضهما البعض ، والأفضل أن يتعاونا على بلوغ المراد , ويقر 'ايمانويل كانت[‡]' Kant Emmanuelبتداخل بصمات العقل والحواس في بلورة وإنضاج المعرفة ، مشيرا إلى أن العقل البشري حين يكتسب المعرفة المحسوسة للأشياء الخارجية يضيف إليها شيئا من جوهره وطبيعته.(10).
فالوقائع التي تصلنا بفضل إعمال الحواس فيما حولنا تبدو مفككة وقليلة الترابط ولكن حين يقوم العقل بتنظيمها تبدو أكثر انسجاما من ذي قبل , مما يجعل من الصعب الاستغناء عن أي منها في عملية حصول فعل المعرفة لدى الإنسان.
غير "برغسون" يشكك في مدى قدرة العقل والحواس كليهما في الاقتراب من الحقيقة ، فالمعرفة العقلية نسبية وتختلف من فرد لآخر حسب وجهة نظر هذا وذاك من الأفراد حسب درجة تعلمه . كما رفض أن تكون الحواس مصدر معارفنا بدعوى أن معارفها سطحية تتناول موضوع المعرفة من الخارج ، لكنها عاجزة على النفاذ إلى باطنه والغوص في صميم حياته . والحل حسب وجهة نظر "برغسون" يكمن في تبني المعرفة الحدسية التي تعتمد الذوق أو الحدس[§] أو الوجدان.
وفي هذا الإقرار اعتراف بعجز عمل الحواس ونشاط العقل كل على حدى وتسليم بصعوبة الحديث عن معرفة متكاملة ، ما لم تحضى بتزكية كل منهما، فالعقل بما لديه من موازين فطرية يعتبر حكما يرجع إليه في تمحيص المدركات بالحس , وتمحيص ما تتضمنه شهادات الآخرين وأخبارهم من معارف , فيجزم بما يراه حقا يقينا , ويقبل ما يترجح لديه منها,ويطرح ما يشك به أو ينزله إلى مادون الرجحان ويرفض ما يحكم بامتناعه واستحالته بناء على قوانينه الذاتية. (11)
والحقيقة أن المذهب التوفيقي هذا خفف بظهوره من غلواء الصراع الدائر بين الاتجاهين اللذين سبقاه عن طريق استحداث شراكة علمية بينهما ، من خلال الاعتراف بدور العقل والتجربة في إنتاج المعرفة , وقد جاء هذا الاتجاه العلمي الحديث ليخفف من حدة طويل غرق فيه الفكر الفلسفي ، في محاولاته للإجابة على سؤال:أيهما أحق بإنتاج الفعل المعرفي العقل أم التجربة ؟
وبناء عليه فإن العقل والحواس لهما دور تكاملي في عملية المعرفة ، على أساس أنه لا مجال لوجود وعي دون تجربة , أي دون تأثير من جانب العالم الطبيعي والإنساني على الإنسان , ولا تجربة دون وعي , أي دون وجود ذات تعي ذلك التأثير وتترجمه إلى أفكار تستخدمها فيما بعد للتأثير قي ذلك العالم , وخارج هذه العلاقة- علاقة التأثير المتبادل بين الإنسان والعالم , وأيضا بينه وبين المجتمع الإنساني- لا مجال للحديث عن تجربة ولا عن معرفة.(12).
فعن طريق المواءمة بين طاقة العقل الفكرية ومعطيات التجربة الاجتماعية يمكن بناء معرفة إنسانية واقعية ، لأن المعرفة الموجودة في عقولنا لا تنفصل عن جملة الحضارة أو الثقافة السائدة في العصر الذي يعيش فيه صاحب المعرفة.(13).
فالعقل يصدر أحكامه على ما يرد إليه من مدركات حسية وفق ضوابط ومحددات تجعل العقل أبعد عن الانحياز إلى الهوى أو الانسياق وراء الرغبات الذاتية , ولكن هل يمكن للعقل أن يصدر أحكامه في منأى عن هذه الضغوطات , والى أي مدى يمكن ضمان النزاهة العلمية فيما يصدر عن العقل من آراء وأحكام ؟
1-2-4- المعرفة تكامل بين عالم الغيب وعالم الشهادة:
لعل القراءة المتأنية للأسانيد والأدلة التي أُعتمد عليها في الانتصار لوجهات النظر السابقة تفيدنا أن كل فريق كان يحرص عل إثبات وجهة نظره ، بغض النظر عن مدى قربها أو ابتعادها عن الحقيقة الموضوعية , فإذا كان الإنسان بالفعل يولد مزودا ببعض المعارف الفطرية التي تساعده على التكيف مع وسطه الاجتماعي ، غير أن هذا يجب أن لا يحملنا على الجزم بأن كل معارف الإنسان فطرية ولا يتسلل إليها الشك لأنها صادرة عن عالم المثل الإلهي ، أما العالم المحسوس فهو موضوع ظن أو اعتقاد وليس موضوع معرفة بالمعنى الدقيق. وبالتالي كل القضايا التجريبية أو الحادثة تحتمل الخداع والكذب ولا يقين فيها.(14)
ويظهر أن هذا الحكم فيه كثير من المبالغة والتجني على عالم المحسوس الذي يتهم بقصوره على بلوغ الحقائق ويكتنفه قدر من عدم اليقين , وقد كان السوفسطائيون(sophists)* -الذين باشروا البحث في موضوع المعرفة في القرن الخامس قبل الميلاد وعلى رأسهم بروتاغوراس وجورجياس- أكثر تطرفا حينما أجزموا باستحالة قيام معرفة إنسانية موضوعية وحجتهم في ذلك قصور الإحساس فهو"خادع وكاذب بدليل أنه ينقل الكبير صغيرا والخطين المتوازيين ملتقيين على البعد, والمجداف مكسور في الماء صحيحا خارجه وهكذا...(15).
وهذا الرأي يتعارض مع ما ذهب إليه أنصار المعرفة المكتسبة الذين يعتبرون الحواس هي حجر الزاوية في المعرفة الإنسانية , ومع تقديرنا لرجاحة هذا الر أي إلا أننا نلمس مبالغة في تضخيم دور الحواس في عملية المعرفة إلى الحد الذي يتحول معه العقل إلى مجرد جهاز للاستقبال يتعطل مفعوله بغياب الحواس، وأن كل فكرة تتولد في الذهن إنما ترتد إلى مصدر واحد فقط هو التجربة أو الخبرة وليس الحد س العقلي كما يقول ديكارت.(16).
وما يجب التأكيد عليه في هذا المقام هو أن حواس الإنسان مهمة في عملية المعرفة ودليل أهميتها قوله تعالى: ]ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا[( الإسراء: 36). فهي ضرورية كوسائل إدراك ووعي وتمييز، إلا أنها قاصرة بمفردها على الإحاطة بكل حقائق الكون. فالله سبحانه وتعالى رزقنا البصر والسمع والفؤاد وجعلها من وسائل الإدراك.فالقرآن يؤكد ضرورة المشاهدة الصحيحة باستخدام البصر والسمع والعقل معاً كأساس للمنهج العلمي التجريبي.
لقد أشاد أنصار النزعة العقلية بأهمية العقل في تشييد الحقيقة , وقد دفعت الثقة المفرطة في إمكانات العقل 'رينيه ديكارت'[**] للمناداة بالاعتماد عليه في إقامة المعرفة الموضوعية اليقينية حيث نجده يقول: إن معنى الحقيقة فطرة في الإنسان لا يحتاج في أمرها إلى لقائه وآيتها النور الفطري, أو الغريزة العقلية.(17).
وعلى الرغم من أن العقل هو مناط التكريم الإلهي للإنسان ، إلا أن الإيمان المطلق بقدرته على بلوغ اليقين قد يؤدي إلى مزالق تمس بمكانة العقل ذاته وتشوه المعرفة , وحتى يأمن العقل عواقب هذا الانحراف لابد له من مرجعية تقيه الزلل والخطأ وهذه المرجعية هي علم الوحي*الذي يستمد منه العقل المسلم قوته وتوازنه وثبات خطواته واستقامته.(18).
فالوحيهو الناظم لعمل العقل والحارس له والضابط لمسيرته , ذلك أن العقل البشري بطبيعته يعتري عمله التقصير ، مما يجعله بحاجة لسلطة الإرشاد والتصويب والتقويم , وهذه المسؤولية لا يقوى على النهوض بها سوى الوحي- لأن الفلسفات التي ألهت العقل أو حنطته باءت بالفشل الذريع- فالقرآن الكريم معجزة متفردة لم تأت لتدهش العقل وتعجزه وتشل فعالياته, وإنما جاءت لتحفز على النظر والتفكر والتدبر في الأنفس والآفاق مصداقا لقوله تعالى:]سنُريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق: 53). فهي لذلك معجزة عقلية تستنفر العقل للفعل...وتعينه على معرفة مالا يستطيع لنسبية إدراكه أن يستقل بمعرفته.(19) . وعليه فالعلم يظل أعرجا في غياب سند الدين ، كما أن الدين دون نور العلم أعمى.
وعن تعسفية الفصل بين المعرفة والمعتقد يقول الباحث دومينيك لوكورLeccourt Dominique : منذ عصر الأنوار، ونحن في أوربا، نعيش خرافة قاتلة تقوم أساسا على اعتبار أن التقدم العلمي يؤدي ، لا محالة ، إلى تراجع المعتقدات.(20). ذلك أن المعتقدات بحسب الرؤية الوضعية تمثل أشكال أولية أو ناقصة للمعرفة الإنسانية ، ومع نضج التفكير يتم التخلي عن المعتقدات بالتدريج . في حين نجد أن مجتمعات تصل درجات متقدمة من المعرفة ولكنها لم تتخلى عن معتقداتها وإن كانت مشبعة بالخرافة ، كما هو الشأن عند الهنود واليابانيين. فما بالك إذا كان هذا الاعتقاد ناجم عن الوحي المنزل لهداية الإنسان.ولكننا نسارع فنقول إن الإيمان بالله تعالى أعلى مرتبة من العلم بمخلوقاته. أي أنه في المنظور الإسلامي الذي يشمل الدنيا والآخرة يأتي العلم بالله في المرتبة الأولى ثم الإيمان به في المرتبة الثانية ، ثم العلم بمخلوقاته في المرتبة الثالثة، ثم الإيمان بمخلوقاته في المرتبة الرابعة.(21).
[color=red]
1-2-5- نظرية المعرفة عند علماء الإسلام:
بناء على ما ذكر آنفا فإن نظرية المعرفة وفق التصور الغربي موسومة بالقصور،فالباحثون الغربيون أنفسهم مافتئوا يبرزون بعض معالم هذا القصور، دون القدرة على الخوض فيها مجملة ، ولاشك أن التصور الإسلامي يستوعب هذا الخلل ويتمم النقص ، من خلال تسامي رؤيته للكون والحياة والإنسان، ومن أهم مرتكزاته مايلي:
1-إن الإنسان والكون(الطبيعة) الذي يعيش فيه ليس وحدهما في الوجود بل كلاهما يبتدئ من الله خلقا ووجودا وينتهيان إليه مصيرا وهو المهيمن عليهما.
2-الطبيعة لم تخلق نفسها ولم توجد بنفسها بل أوجدها الله وهي تسير على سنن مطردة وفق نظام مترابط الأجزاء والله الذي خلقها هو المقدر لسننها ونظامها.
3- العقل الإنساني ليس وحده أداة الوصول إلى الحقيقة بل هناك طريق آخر وهو الوحي.
4- الإنسان ليس حيوانا مفكرا فحسب ، بل إن عناصر تكوينه تتجاوز ذلك فتزيد على العضوية والتفكير.(22).
ومن ثمة فقد صاغ فلاسفة الإسلام نظرية في المعرفة انفردت بخاصية التميز والشمول مفندة مزاعم الطروحات السابقة القائلة بتناقض العقل والنقل , ويذهب أبو حامد الغزالي[††] في تأكيده لوثيق الصلة ووطيد العلاقة بين الشرع والعقل إلى حد قوله: فالعقل كالبصر والشرع كالشعاع , ولن يغني البصر ما لم يكن شعاع من خارج, ولن يغني الشعاع ما لم يكن بصر, فالشرع عقل من خارج , والعقل شرع من داخل, وهما متعاضدان بل متحدان.(23).
فعلى عكس التصور الغربي الذي يختزل المعرفة في عالم الوجود-أي الواقع والكون دون سواه- فإن التصور الإسلامي يتبنى منهجا تكامليا لمصادر المعرفة يجمع بين عالم الغيب وعالم الشهادة مفاده أن المعرفة الإنسانية المتراكمة أتت من مصدرين أحدهما إلهي وهو الوحي والآخر بشري وهو العقل والحواس والتجربة وقد ترجم فلاسفة الإسلام بأمانة وصدق هذا المنهج حيث اعتمدوا أربع هدايات وسبل لتحصيل المعرفة الإنسانية هي العقل والنقل-الوحي-والتجربة والوجدان وهي سبل لا تعمل فرادى , معزولا كل منها عن الآخرين , وإنما تتكامل على النحو الذي تصبح فيه منظومة واحدة.(24). فالتصور الإسلامي يعد بمثابة إعادة بناء للنسق المعرفي بحيث تتسق فيه مدارك العقل مع معارف الوحي بغية تصويب الوجهة التي يعمل وفقها الإنسان.وحتى لا يكون هناك تعارض بين صحيح المنقول وصريح المعقول.
ومادام مصدر العقل والوحي هو الله تعالى ، فلا يمكن أن يقع التناقض والتعارض ، وأن أي تعارض معناه ضعف في سند المنقول ، أو عجز أو خطأ في كيفية الاستدلال.وعند احتمال التعارض ،فإن حكم الوحي المعصوم مقدم على حكم العقل المضنون.(25).
وفي ظل التصور الإسلامي هناك تلاحم بين عالم الغيب وعالم الشهادة, فآيات الكتاب المسطور هي المفاتيح التي تساعدنا في فهم العالم المنظور, والدلائل المودعة في العالم المنظور هي التي تعزز إيماننا بآيات العالم المسطور, فالمعرفة وفق هذا التصور تجمع بين العقليتين الغيبية والعلمية وبذلك تكون على بصيرة بالسنن الحاكمة للوجود الإنساني, يقول الإمام الراغب الأصفهاني[‡‡]:لله عز وجل إلى خلقه رسولان , أحدهما من الباطن وهو العقل والثاني من الظاهر وهو الرسول , ولا سبيل لأحد إلى الانتفاع بالرسول الظاهر ما لم يتقدمه الانتفاع بالباطن , فالباطن يعرف صحة دعوى الظاهر ولولاه لما كانت تلزم الحجة بقوله ولهذا أحال الله من يشكك في وحدانيته وصحة نبوة أنبيائه على العقل فأمره بأن يفزع إليه في معرفة صحتها, فالعقل قائد والدين مدد , ولو لم يكن العقل لم يكن الدين باقيا , ولو لم يكن الدين لأصبح العقل حائرا واجتماعهما كما قال الله تعالى نور على نور(26). فالتأمل العقلي المنضبط هو أحد سبل ترسيخ الإيمان ، وتوسيع آفاق العلم وتعميقه ، وهداية الإنسان وترشيد مساره ، ونجد في هذه الآية تلاحما شيقا بين هدايات العقل والنقل،قال تعالى:]قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي60).وبهذا لا تكون المعرفة العقلية مناقضة للمعرفة الإيمانية.
ويؤيد أبو حامد الغزالي ما ذهب إليه الأصفهاني من ضرورة مد جسور التواصل والتكامل بين العقل والشرع تكامل الأس والبناء لأن وشائج القربى بينهما قوية فبرأيه يعتبر العقل القاضي الذي لا يعزل, ولا يُبدل, والشرع الشاهد المزكي المُعدل,ويجعل العقل مركب الديانة وحامل الأمانة(27). ومن هنا يتبين أن العقل الذي يخاطبه الإسلام هو الملكة التي بها يعصم الضمير، وعن طريقها تدرك الحقائق ، وبها تتم الموازنة بين الأضداد ويكمل التمييز بين الأمور، وبها يتبصر الإنسان ويتدبر، ويحسن الرؤية والإدراك.(28). لأن الإيمان القويم لا يتم إلا بالعقل الذي يعد دعامة الدين ؛ لذلك فالمنظور المنهجي الإسلامي في المعرفة يتميز بالتكاملية , فليس العقل الإنساني أداة وحيدة للوصول إلى الحقيقة , إنما هناك طريق آخر هو الوحي.
والوحي ليس تقييدا لحرية العلم أو انتقاصا من موضوعيته وحياده العلمي, كما تزعم بعض التيارات التي ترى بأن العلم والمنهج العلمي يتعارضان مع المعرفة الغيبية , بل بالعكس فالعلم في ظلال الوحي تنفتح له آفاق الخلق والإبداع من خلال حفز العقل على التفكير الدائم من أجل اكتشاف المزيد من السنن التي أودعها الله في الكون , كما أن الباحث يشعر دوما بالتواضع لأنه لا يملك الحقيقة الكاملة التي هي وقف على خالق الكون والإنسان , وتثبت شواهد التاريخ العلمي البشري أن الحقائق والانتصارات التي يزدهي بها العلم اليوم , لم تثبت عكس ما جاء به الوحي , بل بالعكس تُبنى النظريات وتنهار لتؤكد وتُصدق ما ورد في آيات القرآن الكريم منذ خمسة عشر قرنا,وفي ذلك حكمة إلهية فيها حث للعقل على القيام بوظيفته التي خُلق لها وهي استنباط القوانين التي يسير على هديها نظام الكون العجيب.وصد ق الله العظيم إذ يقول :).... حتى يتبين لهم أنه الحق...((فصلت:53).
شكل(1): يوضح أشكال المعرفة بحسب مصادرها
img-1.png
و عليه فالمعرفة التي يكتسبها الإنسان في ضوء الرؤية الإسلامية تتسم بطابع الوحدة ، فلا ازدواجية في المعرفة مادام الهدف الأسمى والنهائي لها هو الوصول إلى الإيمان بخالق الكون.
ولاشك أن هناك ضرورة ملحة كي تتعاضد تعاليم الوحي مع حقائق الكون لتفرز لنا معرفة أكثر موثوقية وموضوعية وأقرب إلى التعبير عن حقيقة الوجود ، وبذلك تنتهي تلك القطيعة المفتعلة التي استمرت ردحا من الزمن والتي أعاقت العقل البشري عن إبصار الظواهر بمنظار متكامل ومتوازن .
[color=darkblue]خلاصة:
تعكس المعرفة في مفهومها التطور التاريخي والخبرة الخاصة بالمجتمع الغربي مما يجعل مثل هذه المفاهيم - كما يتم تداولها راهنا- تكاد تكون منفصلة ولو جزئيا عن الخبرة الخاصة بالمجتمع العربي المسلم،وربما حاملة في طياتها الكثير من البذور الإلحادية مما يجعلها أشبه بالنفايات المعرفية التي يؤدي تناولها إلى تسمم العقل المسلم ، أو على الأقل تشوش منظومته المعرفية بفعل تضارب توجيهات الأطر المرجعية ، وربما تناقضها أحيانا، وعليه بات من الضروري لفت الانتباه إلى هذه المسألة والإشارة إلى هذا الجانب في تحديد مفهوم المعرفة والتنويه بكل المحاولات العلمية الجادة لتسليط الأضواء على هذه الزوايا المغيبة في البحث.
فالمعرفة في المنظور الإسلامي تتظافر في صنعها الحواس وأدواتها والعقل وموازينه ، والوحي الذي يعد معارف يقينية يتلقاها الأنبياء ويقومون بنشرها بين الناس . فالرؤية الإسلامية في إنتاج الفعل المعرفي تتبنى مبدأ تكامل المكتسبات المعرفية في مجال الدراسات الإنسانية ؛ والغاية المتوخاة من سلوك هذه المنهجية هي تعزيز قدرات الإنسان و تعميق فهمه ، وتوظيف ذلك في ممارساته الحياتية بما يلبي مقتضيات الإيمان ويستجيب لمتطلبات رسالته الاستحلافية في الكون.
من أجل ذلك ينادي الإسلام بربط القرآن بالكون، أي: ربط الوحي بالوجود، والدين بالعلم ، والغيب بالشهادة ، وعالم المسطور بعالم المنظور كأساس لإسلامية العلم والمعرفة ، لأنه لا تعارض بين الدين والعلم في الإسلام.الدين هو سبيل الإنسان للتواصل مع الوجود وإدراك رسالته في الكون ، كما إن الدين يحوط العلم بسياج يصونه من الانحراف نحو ما يضر الإنسان ، ويجعله رهنا بسعادته ، محققا له السكينة النفسية الدنيوية وعدم الحزن أو الخوف في الآخرة ،فمفتاح الإسلام هو العلم والفهم ، وجوهره الإيمان ، وغايته النعيم والرضوان.