ربيع جزائري آخر
القدر يجد متعة في اللهو بي , يأخذ مني أشياءا أحبها و يهديني أخرى , و عندما أتعود و أحب ما لدي بعد تعب طويل , يأخذ مني ما وهبني ... ليهبني الجديد مجددا و تستمر الحكاية في حلقة مفرغة , أفقد أشخاصا تعرفت عليهم كما لو أنني أفقد الروح , ثم أتعرف على أشخاص جدد كي أفقدهم مجددا , أعيش في مدن أحبها و مدن لا أحبها , أحيانا أنتقل من القرية إلى المدينة , و أحيانا من المدينة إلى القرية , الغربة صارت هويتي , غريبة عن نفسي كنت عندما ولدت , و عندما صرت مراهقة , تغربت عن أهلي و لما كبرت امرأة وجدت نفسي أخيرا ... لكنني تغربت عن العالم بأسره !
هذه المرة رماني القدر بعيدا و تلقفتني مدينة تيزي وزو الأمازيغية ... المعروفة بعاصمة القبائل الكبرى بالجزائر , لهجتهم غريبة عني كليا لا أفهمها و لا أجيدها ... و يتشبثون بها و لا يجدون لها البديل , كل أكلهم تفوح منه رائحة زيت الزيتون الطبيعي , الذي جمعته أيادي الصبايا الناعمة , و عصرته السيدات و صبّرنه إلى أن صار صافيا كالذهب .
البشر هنا مختلفون , هناك من لا يأبه لك كأنك غير مرئي , كأنك غير موجود و هناك من يبتسم لك لأنك غريب و يفهم معنى أن تكون غريبا ربما لأنه جرب الغربة في مناسبة ما و هناك من يكشر بوجهك ككلب مسعور .. فقط لأنك لا تنتمي إلى عالمه و لا تحمل دمه لا تشبهه و لا تجيد لهجته !
أما أنا فلم أعد أكترث لمن يبتسم بوجهي أو يكشر ,لم أعد أكترث لأنني إن أحببتهم سأفارقهم يوما و إن كرهتهم سأفارقهم كذلك و تستمر الحكاية في حلقة مفرغة .
هذا الصباح ولد ربيع هذه السنة , غيرت الطبيعة ثيابها على عجل و تزينت بماكياج أخضر ,و لوّنت خدودها بالأقحوان , الطبيعة أنثى جميلة في كل حالاتها و لكنها اليوم تبدو زاهية , سعيدة تغني و ترقص ,كأنها تريد أن تقول شيئا ما أو أن تبوح عن سر ما !
الأمازيغيون يحتفلون بالربيع الأمازيغي كل سنة و يخرجون إلى البراري كي يعانقوا تلك المساحات الخضراء الشاسعة ليجلسوا على الحشائش الندية و يغنون بأصوات عفوية رائعة أجمل الأنغام و الأغاني , الابتسامات لا تفارق وجوههم... حتى العاشقات الحزينات لا يتمنعن عن الابتسام , إنه العيد حقا , يُحَضرون حلويات شعبية و يسمحون للأطفال باللعب بالتراب الطاهر و الركض بعيدا ...
نحن في منطقتنا لم نحتفل يوما بالربيع بهذه الروح الجماعية , الاحتفال به هو ممارسة فردية بحتة , كل يحتفل به على طريقته .. و هناك من لا يحتفل به أبدا ... بل حتى لا يشعر به , فيحضر الربيع ثم يرحل و هو لايزال في سباته إلى أن يباغته الصيف ... فحرارته و جرأته كفيلتان بأن توقظ الميت من قبره , ترى هل تتغير حرارة القبور حسب المواسم ؟
لأنني أنثى منطوية على نفسي كثيرا ما احتفلت بالربيع من خلال الكتابة ... إنه موسم رائع للكتابة أحب أن أفتح نوافذ روحي المغلقة كي يتسلل النسيم العليل إلى كل زوايا الروح و الجسد ... في أحد الأيام تمنيت أن أخرج عارية و أتمدد على ذلك الحشيش الندي .. لكن الأمنية بقيت سجينة لأنني لن أتعرى إلا لرجل واحد رغم إغراءات الربيع المتواصلة
هذا الصباح تلقيت دعوة من صديق طيب , أحبني دون أن يكلف نفسه عناء معرفتي أو اكتشافي يكفي أن يتبع حدسه و يتصرف ,لأنني غريبة و لأنني لم أحتفل بالربيع يوما على طريقتهم طلب مني أن أحضر إلى بيتهم و أمضي عيد الربيع مع والدته و أهله ... ترددت كثيرا رغم ثقتي الكبيرة في هذا الرجل تسمح لي بأن أتبع طيبته و أصّدق نواياه و أرافقه إلى بيته و لكن هناك أمور كثيرة تجعلني أتراجع من بينها أنني لا أنسجم بسرعة مع الناس الغرباء الذين لا أعرفهم مسبقا خصوصا ضمن الاحتفالات ,, احتفال كهذا يجعلني أشعر بالوحدة أكثر و بالغربة أيضا .
طباعي سيئة و قد أعطي انطباعا سيئا عني .. نادرا ما أفهم بطريقة صحيحة ..
لا أحب الأكل من أيادي الغرباء هذه نزعة أخرى ,وسواس لم أجد التحرر منه , لا أثق بنظافة من حولي فأنا لا آكل إلا من يديّ أو يدي والدتي .. كيف سأتصرف إن قدموا لي قطعة كعك أو حلوى ؟ لن أبدو فظة فحسب , بل سابدو قليلة أصل و قليلة ذوق .. لذلك من الأفضل ألاّ اذهب و أحتفظ بصداقتي ب "مولود ".. لا أريد أن أخسر طيبا آخر .
اتصلت به هذا الصباح أبلغه اعتذاري الذي لم يقبله و لم يقتنع به , هو لحوح جدا و لا يريد أن أمضي هذا العيد وحيدة , فهذا العيد يعني له الكثير , بعد لحظات من الإصرار و الإحراج وافقت على مضض و قلت له سأحضر بعد الغداء .
من الآن أشعر بتوتر غريب و معدتي ترتجف , كيف سأقابلهم و كيف سأحدثهم و هم يفهمون لهجتي بصعوبة , سأبدو كالحمقاء بينهم .. ووالدته قد تحبني و قد لا تحبني من أول انطباع , لا أريد أن أكون ضيفة ثقيلة أو غير مرغوبة بها .
تغديت ثم غسلت أسناني و ارتديت فستانا أبيضا .. يناسب الربيع و أجواءه و هذا اليوم الجميل , وجدته ينتظرني أسفل العمارة .. ذهبنا الى منزلهم مشيا و عندما وصلنا وجدنا أبناء إخوته يلعبون بفناء المنزل , دخلنا المنزل سلمت على شقيقته المتزوجة التي حضرت من مدينة أخرى كي تحتفل معهم ,, ثم على شقيقه .. ثم شقيقة أخرى , ثم خالته ثم ابنتاها .. شعرت بالإحراج ... البعض تحدث معي ببضع كلمات عربية يسألونني عن أحوالي و البعض الآخر اكتفى بابتسامة من أجل الترحيب .
مسك يدي كي ندخل إلى المطبخ .. وجدت والدته متربعة على الأرض .. تقوم بتحضير حلوى " الأبراج " بالتمر عن طريق تحميرها على الطابونة .. كانت تتصبب عرقا و جبينها الأبيض يلمع فحرارة المطبخ لا تطاق و هي تحضر كل هذه الكمية الكبيرة من الحلوى ,, سلمت عليها و جلست جانبها تحدثنا قليلا و عندما انتهت من تحضير الحلوى ذهبت لتغيير ملابسها و نادت على الجميع كي يحضروا أنفسهم ... ارتدت جميع النساء بالبيت أزياء قبائلية بألوان زاهية ربيعية و عندما استعد الجميع . طلبت مني والدة مولود أن أرافقها إلى غرفتها .. قدّمت لي هدية لم أكن أنتظرها .. كان ثوبا أمازيغيا رائعا باكسسواراته .. فضة جميلة كتحف تستحق أن تعرض بمتحف ما .
ارتديت الثوب و لبست الإكسسوارات و خرجت معهم و أمضينا الظهيرة هناك على تل متواضع رائع قدم لي مولود قفة صغيرة .. مليئة بالحلوى و الشوكولاطة .. هذه القفة الصغيرة عادة ما يقدمونها للأطفال و ليس للبالغين لكن بما أنني لم أحظ بقفة كهذه من قبل ,اعتبرت أو قفة ربيع قدمت لي , لم أتوقع أنني سأندمج بينهم بهذه السرعة .. و لا أن أحبهم من أول لقاء و لا أن يبادلوني الحب .. أجمل السعادة التي تأتي مباغتة دون انتظارها ..
قدمت لي والدة مولود بعضا من الحلوى التي صنعتها .. في تلك اللحظة تذكرت جهدها و تعبها و هي جالسة في ذلك المطبخ الصغير .. و لم أتجرأ على رفض الحلوى .. أكلتها ليس مجاملة و أكلت قطعا أخرى كذلك .. عندما نحب أحدهم قد نأكل و نشرب من عنده أي شيء حتى لو كان سما , لا نبالي لبعض الأفكار التي تحاول أن تتقاطع بالبال و لا لتلك الوساوس التي مهمتها أن تنكد علينا العيش و الاستمتاع باللحظة , إنه الحب بين الناس هو الذي يخلق المعجزات هو الذي يهدّم مبادئ و يشيد أخرى .. يقتل أفكارا و ينجب أخرى .
عدت إلى منزلي بذلك الثوب الجميل و تلك الحلي و قفتي الصغيرة .. و شكرت القدر لأنه أهداني أناسا جدد .. كي يعوضني عن خساراتي الماضية !
قصة قصيرة بقلمي