قرأت الكثير عن الاتحاد السوفياتي وروسيا على وجه الخصوص لكني لم أقرا أرق وأعذب وأروع من كتاب "ثلاث سنوات في بلد لينين" الذي قام بتأليفه السفير السوري في الاتحاد السوفياتي "جمال الفرا", وإليكم بعض مقتطفاته:
غادرت ألمانيا الغربية قاصدا موسكو لتولي السفارة هناك.. كنت أقدم رجلا وأؤخر أخرى.. ولكن سرعان ما أحببت الاتحاد السوفياتي, واتضح لي في مقامي أن الوجه الإنساني لهذا الاتحاد حجبته عن العالم غشاوات النزاعات السياسية والمذهبية, فآليت علي أن أعرف بهذا البلد على حقيقته فيما له وفيما عليه...
موسكو عاصمة الاتحاد السوفياتي.. أما لينينغراد فهي عروسه.. ليس من مدينة في طول الاتحاد وعرضه تقاربها في الأناقة والجمال..
في موسكو طابع التاريخ العريق وروح آسيا والشرق..
في لينينغراد طابع الحداثة وروح أوربا والغرب..
في موسكو أسوار الكرملين وقبب الكنائس الأرثوذوكسية وهي من صميم روسيا..
في لينينغراد حدائق ودارات وقصور أدخلت عليها اقتباسات من فرنسا وإيطاليا..
في موسكو معالم خلفها القياصرة والنبلاء وأثرياء التجار وأنجزها الروس..
في لينينغراد معالم أتى بها مهندسوا الماء من هولندا وبناة المرافئ من بريطانيا والفنانون من إيطاليا..
في موسكو يقوم تمثال لينين منتصبا على قدميه وكأنه يعرج في السماء يحدب على الجماهير من حوله ويشير بيمينه في اتجاه جبال الأورال وما وراءها.. إلى الشرق..
في لينينغراد يقوم تمثال بطرس الأكبر على صهوة جواده وحيدا في عليائه. زقك نهش الدزاك على ساق واحدة فوق كتلة ضخمة من الصخر في توازن عجيب, يشير بيده إلى بحر البلطيق وما وراءه.. إلى الغرب..
في موسكو.. المدينة الشعبية.. يعيش خلائط من شعوب الاتحاد السوفياتي من المغول والتركيز والتاجيك..
في لينينغراد.. المدينة المترفعة الروسية.. لا يقبل عليها هؤلاء الناس ولا يطيب لهم العيش فيها..
موسكو.. نمت واتسعت ببطء ورتابة كالأراضي الرسوبية.. مع تقلب الأجيال وكر الزمان..
لينينغراد.. برزت فجأة كالصخور البركانية في مغامرة ثورية في أعنف ما تكون الثورات..
هذه حكاية المدينتين عاصمة لينين موسكو.. وعاصمة بطرس الأكبر بتروغراد التي تحولت إلى لينينغراد وفيما أصبحت ستالينغراد
موسكو.. معشوقة لينينة ومنفية بطرس الأكبر, تقف صامدة أمام تغير الزمن فس شموخها وهي الآن مركز رئاسة الروس وترتقي لتفاخر لينينغراد في صمودها وصراعها للبقاء في ذاكرة الزمن..
لينينغراد.. أرملة بطرس الأكبر ومطلقة لينين, تبقى تصارع للحفاظ على مكانتها ضد أية محاولة للتغير, وتقف لتناهض موسكو في رفعتها وسموها وعلو مكانتها..
موسكو.. تناطح تقلب الزمن وتغير الظروف.. وترمق لينينغراد بعين الحب والوفاء والطمأنينة من أي شرخ أو تقهقر أو خذول..
لينينغراد.. تواكب متطلبات الأجيال وتبدل الأوقات وتراقب موسكو بقلب العشق والإخلاء والأمان من أي جفاء أو اضطراب أو إهمال..
موسكو ولينينغراد شعلتا الإباء.. ونجمان منيران.. ودمعتا الهيام.. تعيشان بتناقض كبير ومنسجم..
موسكو ولينينغراد شعلتان متقدتان بالحب لبعضهما البعض.. ونجمان متصارعان.. ودمعتان تذرفان لأجل شعلة الحب وصراع النجم..
موسكو ولينينغراد.. تتقدان حبا لبعضهما البعض.. وتتصارعان في كسب القلوب.. لكنهما تذرفان دموعا لأجل حبهما ولأجل القلوب التي تصارعتا عليها..
موسكو ولينينغراد.. حبان لا ينفكان متصلين ببعضهم البعض.. مستمرتين في الصمود والمضي قدما.. كشعلتين في ماء راكد..