عند بحث أسباب أية مشكلة أو ظاهرة اجتماعية ما , يجب العودة إلى جذورها وبدء نشأتها , وعند العودة لتاريخ الأمة العربية مع بدايات عصر الانحطاط نجد بعض الأسباب التي ساهمت بشكل أو بآخر بابتعادنا عن حضارتنا وتفوقنا على بقية الأمم ومن هذه الأسباب القديمة: ..... يتبع
1- انفتاح الدنيا :
بعد استمرار الدولة الإسلامية المترامية الأطراف بدا الانشغال بكماليات الأمور , وترك الناس كثيرا من الإسلام الهامة كالجهاد ومحاسبة النفس والزهد في الدنيا .. وانشغلوا بترف الدولة الإسلامية وقتئذ , وكذلك انشغل الخلفاء والحكام بزيادة تثبيت ملكهم والإمعان في مظاهر الترف والرفاهية .. فتوجهت إليهم أعين أعدائهم ومطامعهم وحيكت ضدهم المؤامرات من كل جانب دون شعور حقيقي منهم بالخطر المحدق بالدولة الإسلامية بالإضافة إلى انشغالهم بالصراعات الدائرة بينهم من جهة , وبقمع الثورات الطائفية من جهة أو الشرعية أو ثورات الفرق المنحرفة من جهة أخرى .
2- ضعف دور العلماء :
بعد اختلاط الأمة العربية بالأمم الأخرى من غير العرب , واختلاط الثقافات نشأت أجيال جديدة موسومة بضعفها باللغة العربية وخصائصها , وكذلك تأثرها بفلسفات وأديان وثقافات الأمم الأخرى التي انضمت للإسلام , كان دور العلماء يحتم أن يقوموا بتبسيط العلوم لجعلها في متناول هذه الأجيال الجديدة . غير أن الحال كان على خلاف ذلك , فأنزوي العلماء – في معظمهم – نحو الاهتمام بفئات خاصة من طلاب العلم وتركوا أمر العامة . كما دخلوا في صراعات علمية دقيقة فيما بينهم . وتأثرت المنابع الصفية للإسلام باختلاط العقائد والفلسفات الأخرى , وظهر الصراع الفكري مع الفرق , وغرق العلماء في هذه المعارك . فتطبق المجتمع على طبقات منها الجاهل الغارق في الجهل , ومنها العالم الماهر الغارق في جلسات العلم وبين الكتب بعيدا عن أمر الناس والحكم . وكانت فئة العلماء فئة قليلة إذا ما قورنت بعامة الشعب الكثيرة .
3- ضعف الرقابة الخارجية :
إن من أهم العوامل التي ساهمت فيما بعد بقيام غزوات وحروب شنتها الأمم الأخرى على الأمة الإسلامية ، هو انشغال السياسة والقادة الإسلاميين بالشؤون الداخلية للامة وإهمال الرقابة الخارجية فالعدو الذي اندحر إمام عظمة الإسلام وفتوحاته كان مازال يتربص ويتحين الفرص للانتقام لنفسه . وجمعت معظم الأمم المتاخمة لحدود الدولة الإسلامية شتاتها وترقبت اللحظة المناسبة. فقامت كثير من الحروب الصليبية وغزوات البربر والمغول حتى فقد العرب كثيرا من الدول التي قاموا بفتحها كالأندلس ودول في شرق آسيا وأفريقيا وغيرها. وأحسن هؤلاء بضعف القيادة الإسلامية عن سابق عهدها. مما جعلهم يدفعون بمزيد من الجيوش والغارات على أطراف الدولة الإسلامية من الشرق والغرب. وكل هذا أضعف الدولة الإسلامية سياسيا وعسكريا واقتصاديا " وانعكس ذلك سلبا على المظاهر المدنية . وأضعف البنية التحتية " وتخلخل التوازن العلمي والفكري في المجتمع. وبدأت سلسلة التدهور.
ولعل هذه كانت أهم الأسباب القديمة الأولية في انهيار سطوة الحكم الإسلامي. ثم تعددت الأسباب الحديثة في البقاء والرضوخ تحت هذا الضعف فيما كانت الأمم الأخرى والغرب خاصة يدرس علوم العرب ويبدأ حضارته على ما خلفته الأجيال المسلمة من علوم وفنون عظيمة حتى ترجمت معظم الكتب العربية إلى اللاتينية واعتمدت كمراجع علمية أصيلة في مختلفة العلوم ومازال بعضها مرجعا هاما حتى أيامنا هذه في أوروبا.
لما أسباب الضعف والتخلف الحالي الذي نعيشه الآن فمتنوعة ومتشعبة فمنها ما يتعلق بالفرد ومنها يتعلق بالأسرة وكذلك المجتمع ككل. ولكن الأهم من ذلك معالجة هذا الخلل ووضع النقاط الهامة التي تضمن لنا الخلاص من الواقع المرير الذي تعيشه امتنا الإسلامية .. ولقد كان هدفنا منذ البداية الوصول إلى هذه الخلاصة واليكم فيما يلي أهم نقاط العلاج :
معالجة الخلل
بعد الدراسة والتأمل العميق في وضع الآمة , تبين لنا أن معالجة خلل ما يبدا من علاج الفرد الذي هو أساس المجتمع , و إن إصلاح سلوك الفرد يفضي بالضرورة إلى إصلاح مجتمع كامل , و إن العلاج المنهجي والعلمي لكل ما سبق يوضع في نقاط خمس :
قناعات + اهتمامات + قدوات + مهارات + علاقات
1- تغير قناعات:
إن تغير قناعات شخص ما هي السبيل لتغييره بالكامل. فإذا تغيرت قناعاته تغير هو تبعا لها وتأثرت شخصيته بهذا التغير ومن أهم القناعات التي يجب الاهتمام بها هي المبأدى والقيم يجب أن تركز جل اهتمامنا على مصادر قناعتنا , من اين نستمد مبادئنا وقيمنا الذاتية ؟ أن لدينا رصيدا ضخما من التراث لعظيم والخالد "" ويجب أن نمجد هذا التراث ونحمله فوق كواهلنا وعلى أعناقنا وفي صميم قلوبنا ويجب أن نقنع الجيل الجديد بأهمية وضخامة وعظم هذا الأرث الشامخ ولسنا بحاجة لقناعات مستوردة لا تتناسب مع طبيعتنا البشرية السليمة إن العلم والصدق والعدل والوفاء والأمانة واحترام الوقت واحترام الآخرين وإتقان العمل والالتزام بالوعد مبادئ وقيم يجب أن نزرع زرعا في نفوسنا ويجب أن نقدمها وتقدسها ونعتبرها أساسا تسير عليه مقومات حياتنا (أن الفكر والقيم والقناعات من أهم المواضيع التي يجب بحثها بعمق وروية ولحلنا وتخصص له مقالة قادمة بأذن الله تعالى).
2- تغيير الاهتمامات:
إن أمة تريد النهوض من رقاد طويل يجب أن تنهض بمهة وعزيمة من جديد وليس لديها وقت لتضيعة بسفاسف الأمور وصغائرها يجب أن نعود أطفالنا ومنذ الصغر على الاهتمام بعظائم الأمور وتحميلهم المسؤولية وحجز مكان لهم في مراكب الرجال ويجب ألا يتوجه أبناؤنا للاهتمام بالأمور التافهة اكثر من اللازم كالاهتمام الشديد بالرياضة العالمية والثبات إمام التلفاز ساعات لمشاهدة نجوم الكرة أو الفنانين المنحرفين أو الخاوين من القيم أم الاهتمام بسيرتهم الشخصية وعلاقاتهم وإنجازاتهم فماذا يفيدهم هذا في بناء شخصيتهم .. ويجب أن نحث بناتنا على الاهتمام بالثقافة والعلم حتى يتهيأ ليكن زوجات المستقبل العظيمات. وأمهات الفتيان الأمة القادمة بأذن الله وليصبحن من المشاركات في صنع الحضارة المنشودة كما كانت النساء الخالدات في تاريخنا المجيد من قبل .. إن لنا اليد الطولي في تغيير اهتمامات أبنائنا إذا بدأنا نحن بتغيير اهتماماتنا فالوالد الذي يشتغل أمام أبنائه بالثقافة والعلم وحضور الندوات ومتابعة النشرات الثقافية والعلمية لابد بطريقة أو بأخرى أن ينقل هذا الاهتمام لأبنائه و ألام التي توجه وتنصح وتعتني بالأخلاق الحميدة خير مثال لابنتها لتكون مثلها(ولعلنا أيضا نفرد حلقة خاصة للحديث عن هذا الموضوع الهام كذلك)
3- اختيار القدوات:-
فالنفس البشرية مفطورة على الاقتداء بمن حولها مجبولة على تقليد الآخرين في أساليب الحياة فإذا كانت القدوة صالحة فقد صلح المقتدي وإذا كانت القدوة سيئة فذلك مدعاة لفساد من يتبعها لذلك يجب علينا أن نعطي جل اهتمامنا لاختيار القدوة الحسنة لنا ولأبنائنا ولاختيار القدوة يجب أن نحبها أولا ومن ثم نتعرف إلى مجالات عظمتها وتميزها وأسباب نجاحها ومن دواعي تحبيب أبنائنا بالقدوة رواية قصص الصالحين والعظماء في تاريخنا وان الإكثار من قصصهم وحكاياتهم نرمي في قلوب الأبناء حبهم والرغبة في مشكلتهم والعيش على طريقتهم وهذا أعظم إنجاز نحققه لهم( وكذلك هذا موضوع يتطلب عناية خاصة وشرحا مستفيضا)
4- إتقان المهارات:-
ومما لا شك فيه أن الفرد في المجتمع يجب إن يكون متمرساً ومتعلما لكثير من الفنون والمهارات المتعددة مما يؤهله ليكون فاعلا ومؤثرا في مجتمعه ومن المهارات الهامة التي يجب أن تلقنها لأبنائنا تعلم علوم الكمبيوتر واللغات والخطابة والعلوم الكونية والإجماعية إلى غير ذلك مما يعنيهم على قيادة أنفسهم والتأثير بالآخرين (وموضوع المهارات الإدارية سيأخذ منا وقفات قادمة بإذن الله)
5- اختيار العلاقات:--
وقد بات معروفا لدى المربيين وأولياء الأمور أنهم يستطيعون التأثير في أبنائهم في مراحل عمرهم للبكرة حتى إذا ما وصل الابن سنوات البلوغ ضعف تأثير الوالدين وتولت الصحبة والرفقة ذلك العمل . فأعظم ما يجب فعله في هذه الحالة هو اختيار الصحبة الجيدة لهم. فقد أثبتت التجارب ان الشباب في مرحلة المراهقة شديدو التأثير بأقرانهم والتقليد لهم بأفعالهم وأقولهم. ومن هنا وجب التركيز على تعليم الأجيال القادمة فنون العلاقات وتوجيهها واستثمارها وتجنب أخطارها وهذا ما ننوي الحديث عنه بالتفصيل مستقبلا إن شاء الله تعلى.
فهذه الأمور : الخمسة السابقة محاور يجب العمل عليها جميعا. ويجب أن نجيد الطاقات ونسخر الإمكانيات ونشت الهمم ونهتم بها جميعها. ونجعلها دائما نحسب أهميتنا ومحل رعايتنا وتركيزنا وبعد الجهد الطويل والدؤوب على رعاية هذه الأمور لا شك بأننا سنلمس التحسن والتغيير في مجتمعنا كاملا.
ونستشهد الأمة بإذن الله النهوض والإشراق الجديد الذي ننشده ونطمح إليه.
بقي أن نشير إلى أن الأمة يجب أن تراعي أمورا أساسية وهامة بشكل عام ومنها:
1- الاهتمام الأمثل بالتطور العلمي التقني وعدم الاكتفاء بمظاهر الحضارة التقنية وقشورها بل ينبغي التعمق بها و أسير بخطا حديثة لاستكمال نواقص هذا المجال كما يجب العمل على تشجيع الكفاءات وتنمية عقلية البحث والتجربة وروح الإبداع والإتقان المجزي على هذه التقنيات.
2- يجب أن يتمتع أعلامنا ووسائل الاتصالات بمصداقية موثوقة ويجب أن تطلق الحريات الفكرية. ويتسع المجال للحوار بين فئات الشعب المختلفة وبين العامة والحكومات وأصحاب القرار.فان كل ذلك يساعد على نمو الحركة الفكرية واتساع وعمل الثقافة الوطنية للأفراد والمجتمعات.
3- الانطلاق في مجال التعليم برؤية جديدة غير تلك التقليدية التي دلبت عليها مؤسساتنا التعليمية.عقودا من الدهر وباتت رثة أكل عليها الدهر وشرب فعلينا الخروج بنظام تعليمي يواكب مستجات العصر ويحوي رؤية شمولية تستوعب الرأي الأخر والمعارض. وكذلك يجب علينا أن نطرح التدين بطريقة جديدة محببة للنفوس ومقبولة لدى الناس ومقربة من قلوبهم.
4- التغيير يجب أن ينطلق من قاعدة الشعب بجميع فئاته لا أن ينحصر بفئة معينة من الناس بل يجب أن يكون منطق هذا التغيير شموليا وواسعا وذا قواعد عريضة وربما يحتاج هذا الموضوع أيضا لطرح مفصل وشامل.
إننا من واقع معايشتنا لمآسي آمتنا العربية والإسلامية نتوجه بالنصح لكل إخواننا بالبدء بالتغيير دونما إبطاء , فليس في الحياة بقية للتأجيل والتسويف , وان التغيير حتمي ويجب أن يبدا من ذوات أنفسنا لنحقق سنة الله تعالى فينا : (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم) .
ومن الله تعالى العون والتوفيق والسداد .
بقلم / د. طارق السويدان