الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
إن الله _تعالى_ فرض على عباده صيام رمضان، وشرع لهم أن يصوموا أياماً أُخر متفرقة ندباً لا إيجاباً، ورتب على الصيام من الثواب ما تتوق له نفس المؤمن، كما قال _صلى الله عليه وسلم_: "من صام يوماً في سبيل الله بعد الله وجهه عن النار سبعين خريفاً" متفق عليه , وقال _صلى الله عليه وسلم_ : "إن في الجنة باباً يقال له الريان يدخل منه الصائمون يوم القيامة لايدخل منه أحد غيرهم "متفق عليه .
وقد شرع الله الصيام محدوداً بحدود شرعية، من تجاوزها أفسد صيامه أو نقَّصه، فيجب على المسلم أن يعرف حدود ما أنزل الله على رسوله مما يتعلق بالعبادات التي فُرضت فرض عين على كل مسلم ومنها الصيام.
وقد كتبتُ هذا البحث ليعالج جانباً مهماً من جوانب الصيام، وهو "المفطرات المعاصرة"، فقد ظهر في عصرنا هذا من المفطرات المتعلقة بالجوانب الطبية ما ينبغي النظر فيه، ودراسته، للتوصل إلى القول الذي تدل عليه النصوص والقواعد الشرعية.
وقد كُتب في هذا الموضوع في مناسبات عدة لا سيما ما يتعلق بالفتاوى، فهي كثيرة ومنتشرة، وكذلك تناوله المجمع الفقهي بالبحث في دورته العاشرة، وكُتب عن بعض مباحثه في كتب تناولت أحكام الصيام،
لكني لا أعلم كتاباً أو بحثاً مستقلاً حول هذه الموضوعات، عدا ما أشرت إليه من بحوث المجمع الفقهي، أو كتب الفتاوى المعاصرة، وقد أردتُ أن أشارك في هذا الموضوع بتناول مسائله، ودراستها على ضوء نصوص الكتاب والسنة، محاولاً تأصيل هذه المسائل وإرجاعها إلى قواعدها الشرعية المتعلقة بالصيام قدر المستطاع، مع تخريج ما يمكن تخريجه من هذه المسائل على ما ذكره فقهاؤنا المتقدمون رحمهم الله .
سائلاً المولى ـ _عز وجل_ـ أن يهديني سواء السبيل.
المبحث الأول:
مقدمات في المفطرات.
المطلب الأول: المفطرات المتفق عليها في الشرع:
هناك مفطرات دل النص والإجماع على أنها مفسدة للصيام، وهي كما يلي:
1ـ الأكل.
2ـ الشرب.
3ـ الجماع.
ودليل هذه الثلاثة قوله _تعالى_: " فالآن باشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ثم أتموا الصيام إلى الليل ".
4ـ دم الحيض والنفاس.
ودليله حديث أبي سعيد الخدري أن رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ قال: " أليس إذا حاضت لم تصل ولم تصم".
المطلب الثاني:
تحديد الجوف المراد في كلام الفقهاء :
اختلفت المذاهب الأربعة في ذلك :
أولا:ً الأحناف:
بين الأحناف مرادهم بالجوف عند حديثهم عن الجائفة:
فالجائفة عندهم: هي التي تصل إلى الجوف, والمواضع التي تنفذ الجراحة منها إلى الجوف: هي الصدر, والظهر, والبطن, والجنبان, وما بين الأنثيين والدبر, ولا تكون في اليدين والرجلين ولا في الرقبة والحلق جائفة; لأنه لا يصل إلى الجوف.
وهناك فرق ـ عند الأحناف ـ بين المعدة والجوف فإن الجوف يشمل المعدة وغيرها مما يوجد في التجويف البطني.
أما الحلق فقد جعلوا الداخل إليه مفطراً، لكونه منفذاً إلى الجوف.
كذلك الدماغ جعلوا الداخل إليه مفطراً، لكونه منفذاً إلى الجوف.
وكذلك المنافذ الأخرى، كالإحليل، وقبل المرأة وغيرها جعلوا الداخل إليه مفطراً، لكونه منفذاً إلى الجوف.
فتلخص من مذهب الأحناف أنهم لا يقصرون الجوف على المعدة بل يشمل كل التجويف البطني، أما باقي المنافذ فقد جعلوا الداخل إليه مفطراً لكونه منفذاً إلى الجوف.
ثانياً المالكية /
المالكية يرون أن الجوف هو كل البطن وليس فقط المعدة.
ويفطرون بمجرد الوصول إلى الحلق ولو لم ينزل.
واختلفوا في الدماغ، أما باقي المنافذ فلابد من وصول الداخل منها إلى الجوف.
ثالثا:ً الشافعية /
وهم أوسع المذاهب في مدلول الجوف يقصد به عندهم كل مجوف كباطن الإذن، وداخل قحف الرأس، وباطن الإحليل، وإن لم يصل الداخل إليها إلى المعدة، وصول الداخل إلى الحلق يبطل الصوم وإن لم يصل إلى المعدة.
بل ذهب الشافعية إلى أكثر من ذلك، فإن الصائم يفطر عندهم إذا وصل الداخل إلى باطن الفم ـ وحَدُّه مخرج الحاء، أوالخاء، فما بعده باطن، ولا يشترط الشافعية أن يكون الجوف محيلاً للغذاء وهذا هو المشهور عند الشافعية، وهناك وجه عندهم أن يشترط في الجوف أن يكون فيه قوة تحيل الواصل إليه من غذاء أو دواء، وهذا هو الذي أخذ به الغزالي في الوجيز.
رابعاً: الحنابلة
يرى الحنابلة أن ما وصل إلى أحد الجوفين جوف البدن أو الدماغ) فهو مفطر
قال شيخ الإسلام: "ولابد عند أصحابنا أن يصل إلى البطن، أو ما بينه وبين البطن مجرى نافذ".
وكذلك الجائفة، والقطرة في الذكر، وحقنة الدبر، صرحوا أنها لا تؤثر إلا إذا وصلت إلى الجوف.
والذي يظهر أن الحنابلة يقصدون بالجوف المعدة، فقد صرح ابن قدامة بذلك أي أنّ المفطر ما يصل إلى المعدة.
وأما الدماغ فقد اختلف الحنابلة هل هو جوف مستقل فما يدخل فيه يفطر ولو لم يصل إلى التجويف البطني، أو هو مفطر بشرط وجود منفذ بين الدماغ والتجويف البطني، وقد حرر شيخ الإسلام ابن تيمية المراد به فقال ـ بعد أن ذكر أن ما يصل إلى الدماغ يفطرـ : "بناءً على أن بين الدماغ والجوف مجرى، فما يصل إلى الدماغ لابد أن يصل إلى الحلق ويصل إلى الجوف ـ ثم قال ـ وذكر القاضي في بعض المواضع وغيره: أن نفس الوصول إلى الدماغ مفطر؛ لأنه جوف يقع الاغتذاء بالواصل إليه، فأشبه الجوف، والصواب الأول لو لم يكن بين الدماغ والجوف منفذ لم يفطر بالواصل... لأن الغذاء الذي به البنية لابد أن يحصل في المعدة".
القول المختار:
إذا نظرنا في أقوال الفقهاء السابقة وجدنا أنهم على قسمين:
القسم الأول: الفقهاء الذين يفطرون بغير الواصل إلى الجوف كالواصل إلى الدماغ والدبر ونحوهما
بناءً على وصوله إلى الجوف (البطني) فهولاء لاإشكال معهم لأن الطب الحديث (علم التشريح) أثبت أنه لاعلاقة لهذه المنافذ بالجوف .
القسم الثاني: الذين يرون أنها جوف بحد ذاتها، ولو لم يصل ما يدخل من طريقها الى التجويف البطني، وكذلك الذين يرون أن التجويف البطني ليس هو المعدة فقط.
وهؤلاء في الحقيقة ليس معهم دليل يؤيد مذهبهم، بل دل النص على أن المفطر هو الطعام والشراب، وهذه إنما تدخل إلى المعدة ولا ينتفع الجسم بها إلا إذا دخلت المعدة، وهذا وصف مناسب يصلح لتعليق الحكم به ونفي الحكم عند عدمه.
فالقول الأقوى أن الجوف هو المعدة فقط، أي أن المفطر هو ما يصل إلى المعدة دون غيرها من تجاويف البدن.
بقي أن ينبه هنا إلى أن الأمعاء هي المكان الذي يمتص فيه الغذاء، فإذا وضع فيها ما يصلح للامتصاص سواء كان غذاء أو ماء فهو مفطر، لأن هذا في معنى الأكل والشرب كما لا يخفى.
وقد ذهب بعض الأطباء المعاصرين إلى أن المراد بالجوف هو الجهاز الهضمي (البلعوم، المريء، المعدة، الأمعاء). والذي يظهر لي أن هذا ليس بصحيح لأمرين:
1ـ لو فرضنا أن الطعام وصل إلى البلعوم ثم خرج ولم يبقى له أي أثر ولم ينزل منه شيء إلى المعدة ولم ينتفع منه الجسم مطلقاً فبأي دليل نبطل صيام هذا الشخص؟!
2ـ يعتبر الفم جزءاً من الجهاز الهضمي، وهو ليس من الجوف بالنص، فقد جاءت السنة بجواز المضمضة للصائم فهذا مما ينقض القول بأن الجوف هو الجهاز الهضمي.
المبحث الثاني: المفطرات المعاصرة.
وفيه مطلبان:
المطلب الأول: المفطرات المعاصرة الداخلة إلى بدن الصائم، وفيه مسائل :
المسألة الأولى: ما يدخل إلى بدن الصائم عبر الفم، وفيه ثلاثة فروع:
الفرع الأول: بخَّاخ الربو.
بخَّاخ الربو علبة فيها دواء سائل يحتوي على ثلاثة عناصر، 1) مواد كيميائية (مستحضرات طبية). 2) ماء. 3) أوكسجين.
ويتم استعماله بأخذ شهيق عميق مع الضغط على البخَّاخ في نفس الوقت.
وعندئذ يتطاير الرذاذ ويدخل عن طريق الفم إلى البلعوم الفمي، ومنه إلى الرغامي، فالقصباتِ الهوائية، ولكن يبقى جزء منه في البلعوم الفمي، وقد تدخل كمية قليلة جداً إلى المريء.
اختلف المعاصرون فيه على قولين:
القول الأول:
أن بخَّاخ الربو لا يفطر، ولا يفسد صوم الصائم، وهو قول شيخنا عبد العزيز بن بازـ رحمه الله ـ وشيخنا محمد بن صالح العثيمين ـ رحمه الله ـ، والشيخ عبد الله بن جبرين، والشيخ الدكتور الصديق الضرير، ود. محمد الخياط واللجنة الدائمة .
الأدلة:
1ـ أن الداخل من بخّاخ الربو إلى المريء ومن ثم إلى المعدة قليل جداً، فلا يفطِّر قياساً على المتبقي من المضمضة والاستنشاق.
بيان ذلك كما يلي :
تحتوي عبوة بخاخ الربو على 10ملليتر من السائل بما فيه المادة الدوائية، وهذه الكمية مُعدة على أساس أن يبخ منه 200 بخة (أي أن أل10مللتر تنتج 200 بخة) أي أنه في كل بخة يخرج جزء من المللتر الواحد، فكل بخة تشكل أقل من قطرة واحدة، وهذه القطرة الواحدة ستقسم إلى أجزاء يدخل الجزء الأكبر منه إلى جهاز التنفس، وجزء آخر يترسب على جدار البلعوم الفمي، والباقي قد ينزل إلى المعدة وهذا المقدار النازل إلى المعدة يعفى عنه قياساً على المتبقي من المضمضة والاستنشاق، فإن المتبقي منها أكثر من القدر الذي يبقى من بخة الربو "ولو مضمض المرء بماء موسوم بمادة مشعة، لاكتشفنا المادة المشعة في المعدة بعد قليل، مما يؤكد وجود قدر يسير معفو عنه، وهو يسير يزيد ـ يقيناًـ عما يمكن أن يتسرب إلى المريء من بخاخ الربو ـ إن تسرب ـ".
2ـ أن دخول شيء إلى المعدة من بخاخ الربو أمر ليس قطعياً، بل مشكوك فيه، أي قد يدخل وقد لا يدخل، والأصل صحة الصيام وعدم فسادة، واليقين لا يزول بالشك.
3ـ أنه لا يشبه الأكل والشرب، بل يشبه سحب الدم للتحليل والإبر غير المغذية.
المناقشة:
يشكل على هذا الدليل وجود قدر من الماء في تركيب الدواء كما سبق بيانه.
4ـ أن البخاخ يتبخر ولا يصل إلى المعدة، وإنما يصل إلى القصبات الهوائية.
المناقشة:
سبق أنه قد يصل شيء يسير من مادة البخاخ إلى المعدة.
5ـ ذكر الأطباء أن السواك يحتوي على ثمانية مواد كيميائية، تقي الأسنان، واللثة من الأمراض، وهي تنحل باللعاب وتدخل البلعوم، وقد جاء في صحيح البخاري عن عامر بن ربيعة " رأيت رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ يستاك وهو صائم ما لا أحصي"
فإذا كان عُفي عن هذه المواد التي تدخل إلى المعدة؛ لكونها قليلة وغير مقصودة، فكذلك ما يدخل من بخاخ الربو يعفى عنه للسبب ذاته.
القول الثاني:
أن بخاخ الربو يفطِّر، ولا يجوز تناوله في رمضان إلا عند الحاجة للمريض، ويقضي ذلك اليوم، وهو قول الدكتور فضل حسن عباس والشيخ محمد المختار السلامي، والدكتور محمد الألفي، والشيخ محمد تقي الدين العثماني، والدكتور وهبة الزحيلي.
الأدلة:
- أن محتوى البخاخ يصل إلى المعدة عن طريق الفم فهو مفطر.
المناقشة:
يجاب عنه بالدليل الأول لأصحاب القول الأول.
الترجيح:
الذي يظهر والله أعلم أن بخاخ الربو لا يفطر، فإن ما ذكره القائلون بعدم التفطير وجيه ،وقياسهم على المضمضة والسواك قياس صحيح، والله سبحانه و_تعالى_ أعلم.
الفرع الثاني:
الأقراص التي توضع تحت اللسان
التعريف بها:
هي أقراص توضع تحت اللسان لعلاج بعض الأزمات القلبية، وهي تمتص مباشرة بعد وضعها بوقت قصير، ويحملها الدم إلى القلب، فتوقف أزماته المفاجئة، ولا يدخل إلى الجوف شيء من هذه الأقراص.
حكمها:
هذه الأقراص لا تفطر الصائم؛ لأنه لا يدخل منها شيء إلى الجوف، بل تمتص في الفم كما سبق.
المسألة الثالثة: منظار المعدة.
التعريف به:
هو جهاز طبي يدخل عبر الفم إلى البلعوم، ثم إلى المريء، ثم المعدة، ويستفاد منه إما في تصوير ما في المعدة ليعلم ما فيها من قرحة ونحوها، أو لاستخراج عينة صغيرة لفحصها، أو لغير ذلك من الأغراض الطبية.
قبل الشروع في حكم دخول المنظار إلى المعدة لابد من ذكر مسألة فقهية، لتخرج مسألتنا هذه عليها، وهي: هل دخول أي شيء إلى المعدة يفطر به الصائم أو لابد من دخول المغذي.
وهي مسألة اختلف فيها أهل العلم:
قال ابن رشد ـ مبيناً سبب الخلاف في هذه المسألة ـ:" وسبب اختلافهم في هذه هو قياس المغذي على غير المغذي، وذلك أن المنطوق به إنما هو المغذي، فمن رأى أن المقصود بالصوم معنى معقول لم يلحق المغذي بغير المغذي, ومن رأى أنها عبادة غير معقولة، وأن المقصود منها إنما هو الإمساك فقط عما يرد الجوف، سوى بين المغذي وغير المغذي"أهـ.
خلاف أهل العلم في هذه المسألة:
القول الأول:
ذهب عامة أهل العلم والجماهير من السلف والخلف إلى أن من أدخل أي شيء إلى جوفه أفطر، ولو كان غير مغذي، ولا معتاد، ولو لم يتحلل وينماع، فلو بلع قطعة حديد، أو حصاة، أو نحوهما قاصداً أفطر، وهو مذهب الأحناف، والمالكية، والشافعية، والحنابلة.
إلا أن الأحناف اشترطوا استقراره، أي أن لا يبقى طرف منه في الخارج، فإن بقي منه طرف في الخارج، أو كان متصلاً بشيء خارج فليس بمستقر.
الأدلة:
1ـ أن النبي _صلى الله عليه وسلم_ أمر باتقاء الكحل الذي يدخل من العين إلى الحلق، وليس في الكحل تغذية، فعلم أنه لا يشترط في الداخل أن يكون مما يغذي في العادة.
المناقشة:
أنه حديث ضعيف كما بينته في التخريج.
2ـ عموم أدلة الكتاب والسنة على تحريم الأكل والشرب فيدخل فيه محل النزاع.
المناقشة:
أن هذا استدلال بمحل الخلاف؛ لأن الخلاف هل يسمى ذلك أكلاً أو لا يسمى.
3ـ أن الصيام هو الإمساك عن كل ما يصل إلى الجوف، وهذا ما أمسك؛ ولهذا يقال فلان يأكل الطين ويأكل الحجر.
المناقشة:
أن الإمساك المطلوب لا بد له من متعلق، وهو محل البحث، أي ما هو الشيء الذي يطلب من الصائم أن يمسك عنه.
والأكل علقه كثير من أهل اللغة بالمطعوم، ففي لسان العرب: أكلت الطعام أكلاً ومأكلاً. أهـ.
ونحوه في كتب اللغة الأخرى، ويؤيد هذا قوله _صلى الله عليه وسلم_:"يدع طعامه وشرابه". فالمطلوب ترك الطعام والشراب ليس إلا.
4ـ ما جاء عن ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ أنه قال:" إنما الفطر مما دخل وليس مما خرج".
القول الثاني:
أنه لا يفطر مما دخل إلى المعدة إلا ما كان طعاماً أو شراباً، وهو مذهب الحسن بن صالح، وبعض المالكية، واختاره شيخ الإسلام.
الأدلة:
1ـ أن المقصود بالأكل والشرب في النصوص هو الأكل المعروف الذي اعتاد عليه الناس، دون أكل الحصاة والدرهم ونحوهما، فإن هذا لا ينصرف، إليه النص ولهذا لما أراد الخليل ـ أن يعرف الأكل قال: الأكل معروف".
2ـ أن الله ورسوله إنما جعلا الطعام والشراب مفطراً لعلة التقوي والتغذي، لا لمجرد كونه واصلاً إلى الجوف، قال شيخ الإسلام " الصائم نهي عن الأكل والشرب؛ لأن ذلك سبب التقوي فترك الأكل والشرب الذي يولد الدم الكثير الذي يجري فيه الشيطان إنما يتولد من الغذاء، لا عن حقنة ولا كحل".
وإذا ثبت أن هذه هي العلة فهي منتفية فيما يدخل إلى المعدة مما لا يغذي.
الترجيح:
الأقرب دليلاً ـ حسب ما ظهر لي ـ القول الثاني، والأحوط هو القول الأول والله _تعالى_ أعلم .
نرجع الآن إلى المسألة المقصودة وهي دخول المنظار إلى المعدة:
فعلى القول بأن كل داخل إلى المعدة مهما كان ( مغذياً أو غير مغذي) يفطر فالمنظار على هذا يفطر، تخريجاً على قول الأئمة الثلاثة ـ عدا الأحناف ـ فإنهم يشترطون الاستقرار ـ كما سبق ـ وهو أنه ألا يبقى منه شيء في الخارج، ومعلوم أن المنظار يتصل بالخارج، فهو لا يفطر تخريجاً على قول الأحناف ويفطر تخريجاً على قول الثلاثة، ومقتضى كلام كثير من المعاصرين: أن المنظار يفطر، لأنهم قالوا أن كل عين دخلت الجوف تفطر أكلت أو لم تؤكل، تطعم أو لا تطعم صغيرة أو كبيرة.
أما على القول بأنه لا يفطر إلا المغذي فقط فالمنظار لا يفطر؛ لكونه جامداً لا يغذي، وهذا ما اختاره الشيخ محمد بخيت مفتي مصر وشيخنا محمد العثيمين.
والقول بعدم التفطير هو الأقرب؛ لأنه لا يمكن اعتبار عملية إدخال المنظار أكلاً لا لغةً، ولا عرفاً، فهي عملية علاج ليس أكثر.
تنبيه:
إذا وضع الطبيب على المنظار مادة دهنية مغذية لتسهيل دخول المنظار فهنا يفطر الصائم بهذه المادة لا بدخول المنظار؛ وذلك لأنها مفطرة بذاتها، فهي مادة مغذية دخلت المعدة، وهذا يفطر بلا إشكال.
المسألة الثانية: ما يدخل إلى الجسم عبر الأنف وفيه أربعة فروع:
الفرع الأول: القطرة:
ـ الأنف منفذ إلى الحلق كما هو معلوم بدلالة السنة، والواقع، والطب الحديث.
ـ فمن السنة قوله _صلى الله عليه وسلم_ "وبالغ بالاستنشاق إلا أن تكون صائماً" فدل هذا الحديث على أن الأنف منفذ إلى الحلق، ثم المعدة، والطب الحديث أثبت، ذلك فإن التشريح لم يدع مجالاً للشك باتصال الأنف بالحلق.
ـ واختلف الفقهاء المعاصرون في التفطير بالقطرة على قولين:
القول الأول:
أنه لا يفطر وقال به( الشيخ هيثم الخياط، والشيخ عجيل النشمي).
الأدلة:
1ـ أن ما يصل إلى المعدة من هذه القطرة قليل جداً، فإن الملعقة الواحدة الصغيرة تتسع إلى 5سم3 من السوائل، وكل سم3 يمثل خمس عشرة قطرة، فالقطرة الواحدة تمثل جزءً من خمسة وسبعين جزءً مما يوجد في الملعقة الصغيرة.
وبعبارة أخرى حجم القطرة الواحدة (0.06) من السم3.
ويمتص بعضه من باطن غشاء الأنف، وهذا القليل الواصل أقل مما يصل من المتبقي من المضمضة كما سبق تحريره، فيعفى عنه قياساً على المتبقي من المضمضة.
2ـ أن الدواء الذي في هذه القطرة مع كونه قليلاً فهو لا يغذي، وعلة التفطير هي التقوية والتغذية ـ كما سبق تقريره ـ وقطرة الأنف ليست أكلاً ولا شرباً، لا في اللغة، ولا في العرف، والله _تعالى_ إنما علق الفطر بالأكل والشرب.
القول الثاني:
أن القطرة في الأنف تفطر، وقال به شيخنا عبد العزيز بن باز، وشيخنا محمد بن عثيمين، والشيخ محمد المختار السلامي، ود. محمد الألفي.
الأدلة:
1ـ أن النبي _صلى الله عليه وسلم_ قال في حديث لقيط بن صبرة:" بالغ بالاستنشاق إلا أن تكون صائماً". فالحديث يدل على أنه لا يجوز للصائم أن يقطر في أنفه ما يصل إلى معدته.
الراجح:
الذي يظهر لي عدم التفطير بقطرة الأنف، ولو وصل شيء منها إلى المعدة؛ لما سبق بيانه.
الفرع الثاني:
غاز الأكسجين:
هو هواء يعطى لبعض المرضى، ولا يحتوي على مواد عالقة، أو مغذية، ويذهب معظمه إلى الجهاز التنفسي.
حكمه:
لا يعتبر غاز الأكسجين مفطراً كما هو واضح، فهو كما لو تنفس الهواء الطبيعي.
الفرع الثالث:
بخاخ الأنف
والبحث فيه هو البحث نفسه في بخاخ الربو عن طريق الفم، وقد سبق بيانه، فحكمه كحكمه تماماً ولا داعي لتكرار الكلام.
الفرع الرابع: التخدير (البنج)
هناك نوعان من التخدير:
1ـ تخدير كلي.
2ـ تخدير موضعي.
ويتم تخدير الجسم بعدة وسائل:
أ- التخدير عن طريق الأنف، بحيث يشم المريض مادةً غازية تؤثر على أعصابه، فيحدث التخدير.
ب- التخدير الجاف:
وهو نوع من العلاج الصيني، ويتم بإدخال إبر مصمتةٍ جافةٍ إلى مراكز الإحساس، تحت الجلد، فتستحثَّ نوعاً معيناً من الغدد على إفراز المورفين الطبيعي، الذي يحتوي عليه الجسم، وبذلك يفقد المريض القدرة على الإحساس.
وهو في الغالب تخدير موضعي، ولا يدخل معه شيء إلى البدن.
ج - التخدير بالحقن:
وقد يكون تخديراً موضعياً كالحقن في اللِّثة والعضلة ونحوهما.
وقد يكون كلياً وذلك بحقن الوريد بعقار سريع المفعول، بحيث ينام الإنسان في ثوان معدودة، ثم يدخل أنبوب مباشر إلى القصبة الهوائية عبر الأنف، ثم عن طريق الآلة يتم التنفس، ويتم أيضاً إدخال الغازات المؤدية إلى فقدان الوعي فقداناً تاماً.
وقد يكون مع المخدر إبرة للتغذية، فهذه لها حكمها الخاص، وسيأتي الكلام عليها.
حكم التخدير:
ـ التخدير بالطريقة الأولى لا يعدُّ مفطراً؛ لأن المادة الغازية التي تدخل في الأنف ليست جرماً، ولا تحمل مواد مغذية، فلا تؤثر على الصيام.
ـ كذلك التخدير الصيني لا يؤثر على الصيام؛ لعدم دخول أي مادة إلى الجوف، كذلك التخدير الموضعي بالحقن له الحكم نفسه.
ـ أما التخدير الكلي بحقن الوريد فهذا فيه أمران:
الأول: دخول مائع إلى البدن عن طريق الوريد، وسيأتي بحث الحقن الوريدية في مبحثٍ مستقل.
الثاني: فقدان الوعي.
وقد اختلف أهل العلم في فقدان الصائم الوعي هل يفطر أم لا، وفقدان الوعي على قسمين:
القسم الأول:
أن يفقده في جميع النهار:
فذهب الأئمة الثلاثة ـ مالك و الشافعي وأحمد ـ إلى أن من أغمي عليه في جميع النهار فصومه ليس بصحيح؛ لقوله _صلى الله عليه وسلم_: "قال الله كل عمل ابن آدم له إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به" وفي بعض طرقه في مسلم "يدع طعامه وشرابه وشهوته" فأضاف الإمساك إلى الصائم، والمغمى عليه لا يصدق عليه ذلك.
وذهب الأحناف والمزني من الشافعية إلى صحة صومه، لأنه نوى الصوم، أما فقدان الوعي فهو كالنوم لا يضر.
والأقرب قول الجمهور، لوجود الفرق الواضح بين الإغماء والنوم، فإن النائم متى نبه انتبه، بخلاف المغمى عليه.
بناءً على القول بأن المغمى عليه كل النهار لا يصح صومه فمن خُدر جميع النهار بحيث لم يفق أي جزء منه فصيامه ليس بصحيح، وعليه القضاء.
القسم الثاني:
ألا يستغرق فقدان الوعي كل النهار:
فذهب أبو حنيفة إلى أنه إذا أفاق قبل الزوال فلابد من تجديد النية.
وذهب مالك إلى عدم صحة صومه.
وذهب الشافعي وأحمد إلى أنه إذا أفاق في أي جزء من النهار صح صومه.
ولعل الأقرب ما ذهب إليه الشافعي وأحمد من أنه إذا أفاق في أي جزء من النهار يصح صومه، لأنه لا دليل على بطلانه، فقد حصلت نية الإمساك في جزء النهار.
وكما قال شيخ الإسلام لا يشترط وجود الإمساك في جميع النهار، بل اكتفينا بوجوده في بعضه؛ لأنه داخل في عموم قوله:" يدع طعامه وشهوته من أجلي" .
بناءً على ما سبق فالتخدير الذي لا يستغرق كل النهار ليس من المفطرات التي تفسد الصوم لعدم وجود ما يقتضي التفطير. أما التخدير الذي يستغرق كل النهار فهو مفطر، والله أعلم.
المسألة الثالثة: ما يدخل إلى الجسم عن طريق الأذن وفيه فرعان.
الفرع الأول: القطرة.
حكم القطرة في الأذن عند الفقهاء، اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين:
القول الأول:
إذا صب دهن في الأذن أو أدخل الماء أفطر، وهو مذهب الأحناف، والمالكية، والأصح عند الشافعية، ومذهب الحنابلة إذا وصل إلى دماغه.
وقد ذهب هؤلاء إلى القول بالتفطير، بناءً على أن ما يوضع في الأذن يصل إلى الحلق، أو إلى الدماغ، فهذا صريح تعليلهم.
ولذلك جاء في منح الجليل "فإن تحقق عدم وصوله للحلق من هذه المنافذ ـ يقصد الأنف والأذن والعين ـ فلا شيء عليه"
القول الثاني:
أنه لا يفطر، وهو وجه عند الشافعية، ومذهب ابن حزم.
وبنى هؤلاء قولهم على أن ما يقطر في الأذن لا يصل إلى الدماغ، وإنما يصل بالمسام.
وفي الحقيقة لا خلاف بين هذين القولين؛ لأن المسألة ترجع إلى التحقق من وصول القطرة التي في الأذن إلى الجوف، وقد بين الطب الحديث أنه ليس بين الأذن وبين الجوف ولا الدماغ قناة ينفذ منها المائع إلا في حالة وجود خرق في طبلة الأذن.
فإذا تبين أنه لا منفذ بين الأذن والجوف فيمكن القول ـ بناءً على تعليلات القائلين بالتفطير ـ أن المذاهب متفقة على عدم إفساد الصيام بالتقطير في الأذن.
أما إذا أزيلت طبلة الأذن فهنا تتصل الأذن بالبلعوم عن طريق قناة( استاكيوس)، وتكون كالأنف.
وقد سبق الكلام على قطرة الأنف، فما قيل هناك يقال هنا، ولا داعي للتكرار، وقد رجحت هناك عدم الفطر بها، فكذلك هنا، وارجع إذا أردت المزيد إلى قطرة الأنف.
الفرع الثاني: غسول الأذن.
حكم الغسول هو حكم القطرة، إلا أنه إذا أزيلت طبلة الأذن ثم غسلت الأذن فهنا ستكون كمية السائل الداخلة إلى الأذن أكبر من القطرة فيما يظهر، فإن كان هذا السائل يحتوي على قدر كبير من الماء ونزل من خلال القناة الموصلة إلى البلعوم فهذا مفطر؛ لوصول الماء إلى المعدة عن طريق الأذن بسبب إزالة الطبلة كما سبق.
وإن كان الغسول بمواد طبية وليس فيها ماء فهنا ترجع المسألة إلى دخول غير المغذي إلى المعدة، وسبق ذكر الخلاف فيه، وترجيح أنه لا يفطر شيء دخل إلى المعدة إلا إن كان مغذياً.
وبهذا التفصيل كمل الحكم إن شاء الله _تعالى_.
المسألة الرابعة: ما يدخل الجسم عن طريق العين:
اختلف الفقهاء فيما يوضع في العين كالكحل ونحوه هل يفطر أو لا، وخلافهم هذا مبني على أمر آخر وهو هل تعتبر العين منفذاً كالفم، أو ليس بينها وبين الجوف قناة، ولا تعد منفذاً، وإنما يصل ما يوضع فيها إلى الجوف عن طريق المسام.
فذهب الأحناف، والشافعية إلى أنه لا منفذ بين العين والجوف، أو الدماغ، وبناءً على ذلك فهم لا يرون ما يوضع في العين مفطراً.
وذهب المالكية، والحنابلة إلى أن العين منفذ إلى الحلق كالفم، والأنف فإن اكتحل الصائم ووجد طعمه في حلقه فقد أفطر.
وقد بحث شيخ الإسلام خلاف الفقهاء في الكحل، وانتصر لعدم التفطير به، وذكر في ذلك بحثاً لا مزيد عليه.
والطب الحديث أثبت أن هناك قناة تصل بين العين والأنف، ثم البلعوم، فالصواب ـ في مسألة وجود منفذ أو
عدمه ـ مع المالكية،والحنابلة،إلا أنه يبقى اعتبارات أخرى في مسألة القطرة، لا بد من مراعاتها _كما سيأتي_ ولا يتوقف الأمر عند كون العين منفذاً أو ليست منفذاً.
ولم أجد للمتقدمين كلاماً حول قطرة العين نصاً، لكن يظهر جلياً من خلال كلامهم حول قطرة الأذن والكحل في العين أن الضابط عندهم هو كونها منفذاً أو لا، فإذا أردنا معرفة حكم قطرة العين عند الفقهاء المتقدمين فهو على الخلاف السابق في الكحل.
أما المعاصرون فقد اختلفوا في قطرة العين كما يلي:
القول الأول:
ذهب أكثر أهل العلم إلى أن قطرة العين لا تفطر، وهو قول شيخنا عبد العزيز بن باز، وشيخنا محمد العثيمين، ود.فضل عباس، ود.محمد حسن هيتو، ود.وهبه الزحيلي ود.الصديق الضرير، والشيخ عجيل النشمي، وعلي السالوس، ومحي الدين مستو، ومحمد بشير الشقفة.
الأدلة:
1ـ أن جوف العين لا تتسع لأكثر من قطرة واحدة، والقطرة الواحدة حجمها قليل جداً، فإن الملعقة الواحدة الصغيرة تتسع إلى 5سم3 من السوائل، وكل سم3 يمثل خمس عشرة قطرة، فالقطرة الواحدة تمثل جزءاً من خمسة وسبعين جزءاً مما يوجد في الملعقة الصغيرة.
وبعبارة أخرى حجم القطرة الواحدة (0.06) من السم3.
وإذا ثبت أن حجم القطرة قليل فإنه يعفى عنه، فهو أقل من القدر المعفو عنه مما يبقى من المضمضة.
2ـ أن هذه القطرة أثناء مرورها في القناة الدمعية تُمْتَصُّ جميعها ولا تصل إلى البلعوم، أما الطعم الذي يشعر به في الفم فليس لأنها تصل إلى البلعوم، بل لأن آلة التذوق الوحيدة هي اللسان، فعندما تمتص هذه القطرة تذهب إلى مناطق التذوق في اللسان، فتصبح طعماً يشعر بها المريض، هكذا قرر بعض الأطباء، وإذا ثبت هذا فهو حاسم في المسألة.
3ـ أن القطرة في العين لا تفطر لأنها ليست منصوصاً عليها، ولا بمعنى المنصوص عليه، والعين ليست منفذاً للأكل والشرب ولو لطخ الإنسان قدميه ووجد طعمه في حلقه لم يفطره؛ لأن ذلك ليس منفذاً فكذلك إذا قطر في عينه.
القول الثاني:
أن قطرة العين تفطر: قال به من المعاصرين الشيخ محمد المختار السلامي، د. محمد الألفي.
الأدلة:
1ـ قياساً على الكحل إذا وصل إلى الحلق.
المناقشة:
يجاب عنه بأن الكحل محل خلاف كما تقدم، والأقرب أنه لا يفطر به الصائم، فلا يصح القياس عليه.
2ـ أن علماء التشريح يثبتون أن الله خلق العين مشتملة على قناة تصلها بالأنف، ثم البلعوم.
المناقشة:
يجاب عن هذا الدليل بما ذُكِرَ في الدليل الأول للقول الأول.
الراجح:
الذي يظهر ـ والله تعالى أعلم ـ أن أرجح القولين القول الأول، وأنه ليس هناك ما يعتمد عليه في جعل قطرة العين مفسدة للصيام .
المسألة الخامسة: ما يدخل إلى الجسم عن طريق الجلد (امتصاصاً أو نفوذاً) وفيه خمسة فروع:
الفرع الأول: الحقنة العلاجية.
أ- الحقنة العلاجية الجلدية أو العضلية أو الوريدية:
لم أرى خلافاً بين المعاصرين أن الحقنة الجلدية أو العضلية لا تفطر، فذهب إلى ذلك شيخنا عبد العزيز بن باز وشيخنا محمد العثيمين، والشيخ محمد بخيت، والشيخ محمد شلتوت، ود. فضل عباس، ود. محمد هيتو، ومحمد بشير الشقفة، وهو من قرارات المجمع الفقهي.
الدليل: أن الأصل صحة الصوم حتى يقوم دليل على فساده ،وهذه الإبرة ليست أكلاً، ولا شرباً، ولا بمعنى الأكل والشرب، وعلى هذا فينتفي عنها أن تكون في حكم الأكل والشرب.
ب- الحقنة الوريدية المغذية:
وقد اختلف فيها الفقهاء المعاصرون على قولين:
القول الأول:
أنها تفطر الصائم، وهو قول الشيخ عبد الرحمن السعدي، وشيخنا عبد العزيز بن باز وشيخنا محمد العثيمين، ومحمد بشير الشقفة، وهو من قرارات المجمع الفقهي.
الدليل: أن الإبر المغذية في معنى الأكل والشرب، فإن المتناول لها يستغني بها عن الأكل والشرب.
القول الثاني:
أنها لا تفطر، وهو قول الشيخ محمد بخيت، والشيخ محمد شلتوت، والشيخ سيد سابق.
الدليل:
أن مثل هذه الحقنة لا يصل منها شيء إلى الجوف من المنافذ المعتادة أصلاً، وعلى فرض الوصول فإنما تصل من المسام فقط، وما تصل إليه ليس جوفاً، ولا في حكم الجوف.
الجواب:
سبق أن علة التفطير ليست وصول الشيء إلى الجوف من المنفذ المعتاد، بل حصول ما يتقوى به الجسم ويتغذى، ونقلت عن شيخ الإسلام ما يوضح هذا أتم توضيح.
الراجح: القول الأول.
الفرع الثاني: الدهانات والمراهم واللصقات العلاجية:
في داخل الجلد أوعية دموية، فما يوضع على سطح الجلد يمتص عن طريق الشعيرات الدموية إلى الدم، وهو امتصاص بطيء جداً.
وقد سبق أن حقن العلاج حقناً مباشراً في الدم لا يفطر، فمن باب أولى هذه الدهانات والمراهم ونحوها.
بل حكى بعض المعاصرين الإجماع على أنها لا تفطر ، وهو من قرارات المجمع الفقهي.
الفرع الثالث:
إدخال القثطرة (أنبوب دقيق) في الشرايين للتصوير أو العلاج أو غير ذلك :
إدخال القثطرة في الشرايين ليس أكلاً، ولاشرباً، ولا في معناهما، ولا يدخل المعدة، فهو أولى بعدم التفطير من الإبر الوريدية، وهذ ما أخذ به المجمع الفقهي.
الفرع الرابع :
منظار البطن أو تنظير البطن :
التعريف به :
هو عبارة عن إدخال منظار من خلال فتحة صغيرة في جدار البطن إلى التجويف البطني، والهدف من ذلك إجراء العمليات الجراحية، كاستئصال المرارة، أوالزائدة، أو إجراء التشخيص لبعض الأمراض، أو لسحب البييضات في عملية التلقيح الصناعي ( طفل الأنابيب)، أو لأخذ عينات، ونحو ذلك.
وعلم من هذا التعريف أنه لا علاقة له بالمعدة بمعنى أنه لا يصل إلى داخل المعدة.
حكم منظار البطن:
من المسائل التي تشبه منظار البطن وتحدث عنها المتقدمون من الفقهاء مسألة الجائفة:
تعريف الجائفة: هي الجرح الذي في البطن، يصل إلى الجوف، إذا وضع فيه دواء.
وقد اختلف فيها الفقهاء.
القول الأول:
أنها لا تفطر، وهو مذهب مالك، وأبي يوسف، ومحمد، وأبي ثور، وداود، واختاره شيخ الإسلام.
1ـ لأن ما يوضع في الجرح لا يصل لمحل الطعام.
2ـ أن المسلمين كانوا يجرحون في الجهاد وغيره مأمومة وجائفة، فلو كان هذا يفطر لبُين لهم، فلما لم ينه الصائم عن ذلك علم أنه لم يجعله مفطراً.
القول الثاني:
ذهب الجمهور إلى أنها تفطر :
1ـ لأن الدواء وصل إلى جوفه باختياره، أشبه الأكل.
2ـ استدلوا بالحديث " وبالغ بالاستنشاق..." قالوا فكل ما وصل إلى الجوف بفعله يفطر، سواء، كان في موضع الطعام والغذاء، أو غيره من حشو جوفه.
مناقشة الدليلين:
يجاب عن الدليلين بأن الجوف هو المعدة، وقد سبق الكلام في تحديد الجوف بذكر كلام الفقهاء وبيان الراجح.
القول المختار:
الأقرب ـ والله _تعالى_ أعلم ـ هو القول الأول.
بعد هذا الخلاف إذا نظرنا إلى منظار البطن وجدنا أنه لا يصل إلى المعدة، كما صرح بذلك الأطباء، فهو أولى بعدم التفطير من الجائفة، وكل دليل للذين لا يرون التفطير بالجائفة فهو يصلح لعدم التفطير بالمنظار البطني، وعدم التفطير هو ما قرره المجمع الفقهي في دورته العاشرة.
الفرع الخامس: الغسيل الكلوي.
التعريف به:
هناك طريقتان لغسيل الكلى:
الطريقة الأولى:
يتم غسيل الكلى بواسطة آلة تسمى (الكلية الصناعية)، حيث يتم سحب الدم إلى هذا الجهاز، ويقوم الجهاز بتصفية الدم من المواد الضارة، ثم يعيد الدم إلى الجسم عن طريق الوريد، وقد يحتاج إلى سوائل مغذية تعطى عن طريق الوريد.
الطريقة الثانية:
تتم عن طريق الغشاء البريتواني في البطن، حيث يدخل أنبوب عبر فتحة صغيرة في جدار البطن فوق السرة، ثم يدخل عادة ليتران من السوائل التي تحتوي على نسبة عالية من سكر الغلوكوز إلى داخل جوف البطن، وتبقى في جوف البطن لفترة، ثم تسحب مرة أخرى، وتكرر هذه العملية عدة مراتٍ في اليوم الواحد، ويتم أثناء ذلك تبادل الشوارد والسكر والأملاح الموجودة في الدم عن طريق البريتوان، ومن الثابت علمياً أن كمية السكر الغلوكوز الموجود في هذه السوائل تدخل إلى دم الصائم عن طريق الغشاء البريتواني.
حكمه:
اختلف المعاصرون في غسيل الكلى على قولين:
القول الأول:
أنه مفطر، قال به شيخنا عبد العزيز بن باز، ود. وهبة الزحيلي.
الدليل:
أن غسيل الكلى يزود الجسم بالدم النقي، وقد يزود مع ذلك بمادة أخرى مغذية، وهو مفطر آخر، فاجتمع له مفطران.
القول الثاني:
أنه لا يفطر وهو قول د. محمد الخياط.
الدليل:
أن غسيل الكلى يلحق بالحقن فليس أكلاً ولا شرباً إنما هو حقن لسوائل في صفاق البطن ثم استخراجه بعد مدة أو سحب للدم ثم إعادته بعد تنقيته عن طريق جهاز الغسيل الكلوي.
المناقشة:
أن غسيل الكلى قد يكون معه مواد مغذية.
القول المختار:
الذي يظهر أن غسيل الكلى فيه تفصيل، فإذا صاحبه تزويد للجسم بمواد مغذية سكرية أو غيرها فلا إشكال أنه يفطر؛ لأن هذه المواد بمعنى الأكل والشرب، فالجسم يتغذى بها ويتقوى.
أما إذا لم يكن معه مواد مغذية فإنه لم يظهر لي ما يوجب التفطير به.
أما مجرد تنقيته للدم من المواد الضارة فليس في هذا ما يوجب الفطر به، إذ تنقية الدم ليس في معنى شيء من المفطرات المنصوص عليها، والله أعلم.
المسألة الخامسة: ما يدخل إلى الجسم عن طريق المهبل، وفيه فرعان:
الفرع الأول: الغسول المهبلي (دوش مهبلي).
يعرف حكم هذه المسألة بمعرفة حكم دخول شيء للمهبل عند الفقهاء المتقدمين،وقد اختلفوا على قولين:
القول الأول:
ذهب المالكية، والحنابلة، إلى أن المرأة إذا قطرت في قبلها مائعاً لا تفطر بذلك.
الأدلة:
1ـ أن فرج المرأة ليس متصلاً بالجوف.
2ـ أن مسلك الذكر من فرج المرأة في حكم الظاهر.
القول الثاني:
ذهب الأحناف، والشافعية، إلى أن دخول المائع إلى قبل المرأة يفطر.
الدليل: أن لمثانتها منفذاً يصل إلى الجوف، كالإقطار في الأذن.
القول المختار:
بنى الأحناف والشافعية قولهم بالتفطير على وصول المائع إلى الجوف عن طريق قبل المرأة، كما علل به في بدائع الصنائع، وهو أمر مخالف لما ثبت في الطب الحديث، حيث دل على أنه لا منفذ بين الجهاز التناسلي للمرأة وبين جوفها، ولذلك فليس هناك في الحقيقة ما يوجب التفطير، حتى على مذهب الأحناف والشافعية، انطلاقاً من تعليلهم.
فالقول الأقرب هو عدم التفطير بالغسول المهبلي مطلقاً، وليس في النصوص ما يدل على التفطير، كل ما جاء في النصوص فيما يتعلق بالمهبل من المفطرات هو الجماع، ولا علاقة له لا شرعاً، ولا لغةً، ولا عرفاً بالغسول المهبلي.
الفرع الثاني: وتشمل ما يلي:
التحاميل اللبوس، المنظار المهبلي، أصبع الفحص الطبي.
والكلام فيها كالكلام في المسألة السابقة تماماً، حكماً وتعليلاً.
المسألة السادسة: ما يدخل إلى الجسم عن طريق فتحة الشرج وفيه ثلاثة فروع:
الفرع الأول: الحقنة الشرجية.
وقد بحث الفقهاء المتقدمون الحقنة الشرجية واختلفوا فيها على قولين:
القول الأول: ذهب الأئمة الأربعة إلى أن الحقنة الشرجية تفطر الصائم.
الأدلة:
1ـ لأنه يصل إلى الجوف.
2ـ ولأن غير المعتاد كالمعتاد في الواصل.
3ـ القياس على الاستعاط فإذا أبطل الصيام بما يصل إلى الدماغ فما يصل إلى الجوف بالحقنة أولى.
القول الثاني:
أن الحقنة الشرجية لا تفطر، وهو قول لبعض المالكية، ومذهب الظاهرية، واختاره شيخ الإسلام.
الدليل:
1ـ أن الحقنة لا تغذي بوجه من الوجوه، بل تستفرغ ما في البدن، كما لو شم شيئاً من المسهلات، أو فزع فزعاً أوجب استطلاقه.
2ـ أن هذا المائع لا يصل إلى المعدة، ولا إلى موضع يتصرف منه ما يغذي الجسم.
واختلف المعاصرون في هذه المسألة اختلافاً مبنياً على الخلاف السابق، فمنهم من رأى أنها تفطر، ومنهم من رأى عدم التفطير فيها.
القول المختار:
إذا نظرنا إلى فتحة الشرج (الدبر) فسنجد أنها متصلة بالمستقيم، والمستقيم متصل بالقولون (الأمعاء الغليظة)، وامتصاص الغذاء يتم معظمه في الأمعاء الدقيقة، وقد يمتص في الأمعاء الغليظة الماء وقليل من الأملاح والغلوكوز.
فإذا ثبت طبياً أن الغليظة تمتص الماء وغيره، فإنه إذا حقنت الأمعاء بمواد غذائية، أو ماء، يمكن أن يمتص، فإن الحقنة هنا تكون مفطرة؛ لأن هذا في الحقيقة بمعنى الأكل والشرب، إذ خلاصة الأكل والشرب هو ما يمتص في الأمعاء.
أما إذا حقنت الأمعاء بدواء ليس فيه غذاء، ولا ماء، فليس هناك ما يدل على التفطير. والأصل صحة الصيام حتى يقوم دليل على إفساد الصوم، وليس هنا ما يدل على الإفساد.
واختار هذا التفصيل من المعاصرين شيخنا محمد العثيمين، ود. فضل حسن عباس.
ومن هنا نعلم أن أصحاب القول الثاني لو علموا أن الحقنة الشرجية يمكن أن تغذي، بأن يمتص الأمعاء منها الماء، أو الغذاء، وينتفع به الجسم انتفاعه بالطعام والشراب، لذهبوا ـ فيما أظن ـ إلى القول بالتفطير.
الفرع الثاني :التحاميل (اللبوس):
تستعمل التحاميل لعدة أغراض طبية، كتخفيف آلام البواسير، أو خفض درجة الحرارة، أو غيرها، وحكمها عند الفقهاء كحكم المسألة السابقة، إلا أن المالكية لا يرون أنها تفطر، فقد قال الزرقاني:
"والفتائل لا تفطر ولو كان عليها دهن".
وقد اختلف المعاصرون فيها كما يلي:
القول الأول:
أنها لا تفطر، قال به شيخنا محمد بن عثيمين، والشيخ محمود شلتوت، ود. محمد الألفي.
الأدلة:
1ـ أن التحاميل تحتوي على مادة دوائية، وليس فيها سوائل.
2ـ أنها ليست أكلاً، ولا شرباً، ولا بمعنى الأكل والشرب، والشارع إنما حرم علينا الأكل والشرب.
3ـ أن التحاميل ليست بأكل في صورته، ولا معناه، ولا يصل إلى المعدة محل الطعام والشراب.
القول الثاني:
أنها مفطرة، وقال به الشيخ حسن أيوب، وعبد الحميد طهماز، ومحي الدين مستو.
الأدلة:
1ـ استدلوا بما ذكره الفقهاء، من أن كل ما يدخل الجوف فهو مفطر، واعتبروا الأمعاء من الجوف.
المناقشة:
يجاب عن هذا الدليل بما سبق أن الجوف هو المعدة فقط، أما الأمعاء فلا يفطر ما دخل فيه، إلا إذا كان مما يمكن امتصاصه من الغذاء والماء، والتحاميل ليست كذلك.
2ـ أن فيها صلاح بدنه.
المناقشة:
أن الله لم يجعل ما فيه صلاح البدن مفسداً للصوم، إنما ذكر الطعام والشراب فقط، وإصلاح البدن يحصل بأشياء كثيرة، وهي مع ذلك غير مفطرة.
القول المختار:
الذي يظهر أنها لا تفطر، لعدم وجود دليل شرعي يعتمد عليه في إفساد صيام مستعمل التحاميل، وأدلة أصحاب القول الأول وجيهة فيما ظهر لي. والله أعلم.
الفرع الثالث: المنظار الشرجي وأصبع الفحص الطبي.
قد يدخل الطبيب المنظار من فتحة الشرج، ليكشف على الأمعاء أوغيرها.
وقد سبق الكلام على منظار المعدة، وما ذكره الفقهاء فيه، وهو ينطبق على المنظار الشرجي، وأصبع الفحص الطبي.
إلا أن القول بعدم التفطير في المنظار الشرجي، وأصبع الفحص الطبي، أولى وأقوى، لما سبق تقريره من أن الجوف هو المعدة، أو ما يوصل إليها، وليس كل تجويف في البدن يعتبر جوفاً، فعلى هذا يكون المنظار الشرجي والإصبع أبعد أن يفطر من منظار المعدة.
المسألة السابعة: ما يدخل إلى الجسم عن طريق مجرى البول، وفيه فرع واحد:
الفرع الأول:
إدخال القثطرة، أو المنظار، أو إدخال دواء، أو محلول لغسل المثانة، أو مادة تساعد على وضوح الأشعة.
بحث الفقهاء المتقدمون مسألة: إذا أدخل إحليله مائعاً أو دهناً، واختلفوا فيها على قولين:
القول الأول:
أن التقطير في الإحليل لا يفطر، وهو مذهب الأحناف، والمالكية، والحنابلة.
الدليل: لأنه ليس بين باطن الذكر والجوف منفذ.
القول الثاني:
أنه يفطر، قال به أبو يوسف وقيده بوصوله إلى المثانة، وهو الصحيح عند الشافعية.
الدليل:1ـ أن بين المثانة والجوف منفذاً.
2ـ لأنه منفذ يتعلق الفطر بالخارج منه، فتعلق بالواصل إليه كالفم.
الجواب: 1ـ ليس بين المثانة والمعدة منفذ.
2ـ قياسه على الفم قياس مع الفارق، فإن ما يوضع في الفم يصل إلى المعدة ويغذي، بخلاف ما يوضع في مسالك البول.
القول المختار:
ظهر جلياً من خلال علم التشريح الحديث أنه لا علاقة مطلقاً بين مسالك البول والجهاز الهضمي، وأن الجسم لا يمكن أن يتغذى مطلقاً بما يدخل إلى مسالك البول.
بناءً على ذلك فإن قول جمهور الفقهاء في هذه المسألة هو الصواب إن شاء الله.
وعليه فإن إدخال هذه الوسائل المعاصرة في الإحليل لا يفسد الصيام، لعدم وجود المقتضي لذلك، والأصل صحة الصيام.
المطلب الثاني: المفطرات المعاصرة الخارجة من بدن الصائم: وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: التبرع بالدم.
بحث الفقهاء المتقدمون مسألة الحجامة من حيث التفطير بها، وعدمه، وهي تشبه تماماً التبرع بالدم، ففي كل منهما إخراج للدم، وإن كان الهدف من التبرع إعانة، الآخرين، والهدف من الحجامة التداوي، ولكن لا أثر للمقصود منهما على مسألة التفطير في الصيام.
وقد اختلف الفقهاء في الحجامة على قولين:
القول الأول:
أن الحجامة تفطر وتفسد الصوم، وهو مذهب الحنابلة، وإسحاق، وابن المنذر، وأكثر فقهاء الحديث( )، واختاره شيخ الإسلام.
دليلهم:
1ـ قوله _صلى الله عليه وسلم_:"أفطر الحاجم والمحجوم".
القول الثاني:
أن الحجامة لا تفطر، وهو مذهب الجمهور من السلف والخلف .
الأدلة:
1ـ حديث ابن عباس "احتجم رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ وهو صائم"، وفي لفظ عند الترمذي "احتجم وهو صائم محرم" قالوا وهو ناسخ لحديث "أفطر الحاجم والمحجوم".
وجه كونه ناسخاً:
أنه جاء في حديث شداد بن أوس أنه _صلى الله عليه وسلم_ مر عام الفتح على رجل يحتجم لثمان عشرة ليلة خلت من رمضان، فقال:"أفطر الحاجم والمحجوج"، وابن عباس شهد معه حجة الوداع، وشهد حجامته يومئذ وهو محرم صائم، فإذا كانت حجامته عليه السلام عام حجة الوداع فهي ناسخة لا محالة؛ لأنه لم يدرك بعد ذلك رمضان، حيث توفي _صلى الله عليه وسلم_ في ربيع الأول.
الجواب:
أن حديث "أفطر الحاجم.." هو الناسخ لحديث ابن عباس؛
لأن احتجامه وهو محرم صائم ليس فيه إنه كان بعد شهر رمضان الذي قال فيه "أفطر الحاجم والمحجوم" فقد أحرم _صلى الله عليه وسلم_ عدة إحرامات، فاحتجامه وهو صائم لم يبين في أي الإحرامات كان، ثم لم يذكر في الحديث أنه لما احتجم لم يفطر، فليس في الحديث ما يدل على هذا، وذلك الصوم لم يكن في شهر رمضان، فإنه لم يحرم في رمضان، وإنما كان في سفر والصوم في سفر لم يكن واجباً، بل كان آخر الأمرين منه الفطر في السفر، فقد أفطر عام الفتح لما بلغ كديد، ولم يعلم بعد هذا أنه صام في السفر، فهذا مما يقوي أن إحرامه الذي احتجم فيه كان قبل فتح مكة، وحديث "أفطر الحاجم.." كان في فتح مكة كما سبق.
وأيضاً إذا تعارض خبران، أحدهما ناقل عن الأصل والآخر مبق على الأصل، كان الناقل هو الذي ينبغي أن يجعل ناسخاً؛ لئلا يلزم تغيير الحكم مرتين.
مناقشة الجواب:
ما قرره شيخ الإسلام متين كما ترى، ولكن يشكل عليه ما يلي:
اعتمد في كلامه على كونه احتجم صائماً محرماً، واللفظ الصحيح للحديث احتجم وهو صائم، واحتجم وهو محرم، وهو لفظ البخاري، وأما لفظ احتجم وهو صائم محرم فهو لفظ الترمذي، وقد استظهر الحافظ أنها خطأ من بعض الرواة، وأن الصواب وقوع كل منهما في حالة مستقلة.
2ـ حديث أبي سعيد الخدري "رخص رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ للصائم في الحجامة".
3ـ حديث أنس بن مالك أول ما كرهنا الحجامة للصائم أن جعفر بن أبي طالب احتجم وهو صائم، فمر به النبي _صلى الله عليه وسلم_ فقال: أفطر هذان، "ثم رخص النبي _صلى الله عليه وسلم_ بالحجامة للصائم وكان أنس يحتجم وهو صائم".
المناقشة:
أنه حديث غير محفوظ.
4ـ حديث ثابت البناني أنه قال لأنس بن مالك: أكنتم تكرهون الحجامة للصائم على عهد رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ قال: لا، إلا من أجل الضعف".
القول المختار:
في هذه المسألة إشكال، لكن الذي يظهر رجحان مذهب أكثر السلف، وهو عدم التفطير؛ للأحاديث المتكاثرة المصرحة بلفظ الترخيص، وهو يكون بعد المنع، قال ابن حزم ولفظة "أرخص" لا تكون إلا بعد النهي، فصح بهذا الخبر نسخ الخبر الأول". أهـ.
وإن كان الأحتياط في مسألة الحجامة متوجهاً جداً؛ لقوة ما قاله شيخ الإسلام: من أن الناقل هو الذي ينبغي أن يجعل ناسخاً دون المبقي على الأصل؛ لئلا يلزم تغير الحكم مرتين.
والخلاصة: أن التبرع بالدم يقاس على مسألة الحجامة، والذي تدل عليه الأدلة أن الحجامة لا تفطر. فكذلك التبرع بالدم.
المسألة الثانية أخذ الدم للتحليل ونحوه :
ليس هناك دليل على إفساد الصوم بأخذ القليل من الدم، فهو ليس بمعنى الحجامة، فإن الأحاديث السابقة في الحجامة صرحت أن علة التفطير بالحجامة الضعف الذي ينتج عنها، وهذا المعنى ليس موجوداً في أخذ الدم القليل.
والله _سبحانه وتعالى_ أعلم وأحكم.
أهم نتائج البحث
1ـ موضوع البحث المفطرات التي ظهرت في عصرنا الحديث.
2ـ الأقرب من حيث الدليل أن الجوف الذي