بعض ساعات النوم شهية لا نرغب بالاستيقاظ منها أبدا .. نلتصق بالسرير و بالملاءات كأنها الملاذ الوحيد , يرحل النوم عن الأعين و لكنها تبقى مغمضة و مطبقة إصرارا على سرقة المزيد من اللحظات الهاربة , عمدا نبذر الدقائق و لا نبالي لضياعها .. نرمي بساعة أو ساعتين إلى نفاية الزمن .. نطعن الوقت ثم ندعي أنه طعننا , يتسلل الضوء من النوافذ دون استئذان , يحضر الصباح مستعجلا و تتثاءب الشمس مللا من روتين كل يوم , من كسل الناس و عدم ترحيبهم اللائق بها , و لكنها تصر على الجلوس هناك كملكة تنتظر قدوم القمر العزيز لترحل .
صباح هذا اليوم , تشبث عماد بفراشه رغم كل المنبهات التي رنت داخل رأسه قبل الثامنة بساعة , عندما فتح نصف عينه كي يسحب إليه هاتفه الجوال , لمح تاريخا بدا له لبرهة أنه مميز نوعا ما , و عندما ركز بعد لحظات و تصفح الذاكرة بتريث اكتشف أنه عيد ميلاد نسرين !
بالنسبة له يومه حافل جدا و ليس لديه الوقت أبدا من أجل التبضع لكن إن لم يبتع لها هدية , عليه أن يتحمل سنة كاملة من التذمر و الشكوى بحقد أنثى لن تغفر له زلة كهذه .. هكذا حدثته نفسه و هو يحلق ذقنه أمام المرآة الكبيرة بالحمام .
أحيانا نجد أشياءا كنا نسينا البحث عنها أو ربما لأننا لم نبحث عنها وجدناها .. في لحظة روتينية وجد عماد ضالته بينما كان يبحث في الأدراج عن ساعة يده , لمح عقدا ذهبيا منسيا .. لم تسأل عنه شقيقته منذ سنتين أو ربما ما عادت بحاجته , يبدو أن المهمة أصبحت أكثر سهولة , لا تنقص سوى علبة جميلة للعقد و ينتهي الموضوع !
خرج إلى الشارع مبتسما , زاحم الناس كي يفوز بمقعد بالباص ككل يوم , و بمجرد أن جلس اقتربت منه سيدة طاعنة في السن .. بخطوات ثقيلة ... مكبلة القدمين بأصفاد العمر التي لابد منها بآخره , يختل توازنها كلما غير الباص اتجاهه , في موقف كهذا كان الحل الوحيد هو أن يشيح بنظره إلى النافذة مستاءا أو في الحقيقة محرجا , لقد جاهد حقا كي ينال هذا المكان المرموق في الباص ثم تأتي هذه المسنة ببساطة لتأخذه منه , حتما خنقته هذه الأفكار و ضيقت ربطة العنق عليه أكثر , لا ينبغي على المسنين أن يركبوا الباص ماداموا عاجزين عن تحمل مشقته , إن الله لا يكلف نفسا إلا وسعها , عندما لمحت السيدة عزوفه عن الوقوف لم تتردد بالمبادرة , ربتت بأصابعها على كتفه , فاستدار على مضض مرغما و مكرها :
- صباح الخير
- صباح النور .. يوم جميل أليس كذلك ؟
إنه يحلم بأن يقتصر الأمر على دردشة عابرة بيوم صيفي طويل , هي لم تحيك باطلا , هي تريد مكانك
- يا ولدي .. المرض ينخر جسدي , و لا أستطيع الوقوف طويلا فهل تسمح لي بالجلوس ؟
استسلم أخيرا ووقف غير مبتسم , يحاول أن يحافظ على توازنه كلما غير الباص اتجاهه يمينا أو شمالا , و عندما توقف الباص بالمحطة الاخيرة تنفست الصعداء .
أثناء الدوام تسللت أفكار جديدة لرأس عماد , هناك شخص يزاحمه دوما يقطن داخله , يملي عليه ما ينبغي فعله و ما لا ينبغي , إنه هو بحد ذاته , عماد الذي يجهله الجميع , الذي لا يبوح بكل ما يفكر و إن باح لانفض من حوله الجميع .
الفكرة الجديدة التي طرقت على بابه و عرضت نفسها عليه هي بخصوص ذلك العقد الثمين بجيبه , العقد باهض جدا و لا يصلح كهدية , ماذا إن كانت نسرين مجرد نزوة ؟ سيكون العقد الثمين خسارة فادحة , أنت أولى بالعقد منها يا عماد , باقة من الأزهار تكفي , و بين إهداء العقد و عدم إهدائه احتار عماد و لم يدري ماذا يفعل ؟ صوت داخله يخبره أن نسرين شابة طيبة جدا و تحبه من أعماق أعماق القلب و صوت آخر لازال يصر عليه أن باقة من الأزهار تكفي , بعد شوط طويل من التفكير و بالوقت بدل الضائع قرر عماد أن يكتفي بالأزهار , اتصل بها و حدد لها موعدا بمدينة الملاهي و بعد العصر تعطر و ركب نفس باص الصباح المشؤوم .
- مساء الخير
- مساء النور عماد , لا تدري كم كنت بحاجة لموعد كهذا . مدينة الملاهي من أحب الأماكن إلى قلبي
- احم ... نعم فكرت بأن نغير الجوّ قليلا
- و هذه الأزهار الجميلة لي ؟
- طبعا ... إنها بمناسبة عيد ميلادك !
اغرورقت العينان بالدموع فجأة و قفزت نحوه تعانقه بحب و شغف .... ربما هو أصدق عناق بحياته شهده مع أنثى
- لم أتوقع أنك ستتذكره
- كيف يمكنني أن أنساه يا نسرين ؟
- و هذه الأزهار التي أحضرتها قد أزهرت بقلبي و سيكون لها عمر طويل بالنسبة لي , أنت تتمتع بكل الرومانسية التي كنت أحلم بها , طالما حلمت برجل مثلك .. و اليوم حقق الله لي كل أحلامي
شعر بإطراء كبير و تبلل إحراجا .. ثم سمع صوتا داخله يعاتبه قائلا :
- تبا .... لقد كانت تستحق ذلك العقد !!!