نشاطه وعمله المتواصل كان ينفق مالا يقل عن 16 ساعة عمل المتواصل في غالب الأيام – بعد استقالته من التدريس – ولا ينام من الليل إلا القليل وكانت خصلة الدأب والنشاط الدائم عنده تنتقل بالتقليد إلي سائر العاملين في القطر كله .
وليس سهلا علي أي إنسان أن يحقق الفناء في الغاية والسعي إلي الهدف الذي حدده لنفسه – دون أن ينسي الحقوق الأخرى المرتبطة به كحق البيت وحق النفس وحق الأولاد والأرحام ولكن اليقظة والتنظيم تبارك الوقت وتحقق الواجب علي كل حال .
من صفاته الشخصية الكرم والإيثار ، وإن المرء ليعجب حين يطلع علي مالية المركز العام ويعلم أنه يقيم دعوة عامة لا دعوتين كل أسبوع لأكثر من مائة من رجالات مصر في كل مرة لتناول الشاي . إن الدعوة الواحدة في ذلك الوقت كانت تكلف مائتي جنيه علي الأقل ، ولكنها كانت عندنا تتكلف مائتي قرش علي الأكثر فالأدوات ( السرفيس ) والكراسي ملك المركز العام ونحن نقوم بالخدمة والزخرفة – وعلي المرشد العام أن يعتذر عن الباقي بالنكتة اللبقة وينقل الحاضرين إلي المعاني الجادة .
وكنا كثيرا ما نجتمع في بيته علي دروس ( التفسير وإحياء علوم الدين ) وأحيانا ينسي أن يجهز لنا شيئا فيقول ( اذهبوا إلي المطبخ فكلوا ما وجدتم أو اصبروا ) وكنا في نشوة الفرح باللقاء والمشغلة بالعلم النافع لا نقيم لهذه الاعتبارات وزنا ونتقاسم الرغيف اليابس ونحن في غاية السعادة ، ولكنه حين يدعو أناسًا بأعينهم تشعر بمعاني الكرم والإتقان في حدود ذلك الإمكان .
وكان يقول : ( يكذب من يزعم التضحية بالنفس وهو تشجيع بالمال لأن النفس أغلي من المال )
وقد استطاع – مع شدة الأحداث وخصوصا في أيام حزب حرب فلسطين – أن ينقل استعداد أعضاء الجماعة للتضحية من القروش العشرة والعشرين إلي ( خمس الإيراد ) فقدم للهيئة التأسيسية مشروع ( سهم الدعوة ) وشعارنا قول الله تعالي : ( واعلموا أن ما غنمتم من شيء فإن لله خمسه ) وبدأ بنفسه فكان يقدم ( العشرة ) عن نفسه من ماله الخاص رحمه الله .
أسلوبه في التربية ونظرته للقضايا العامة كان من عادته في الإرشاد أن يعرض للمشكلة من مشاكل الدنيا أو الدين ثم يحللها علمياً بعيداً عن النصوص – ويورد ما يؤيد وجهة نظر معينة وما يعارضها من واقع الحياة والتطبيق ، فإذا أحس أنها قاربت أن تتضح في نفوس السامعين جاء بالشواهد من الآيات الشريفة أو الحديث النبوي الشريف لتكون تتويجاً للبحث – ويضعها كغطاء الزجاجة فوق مستوي الشك أو التكذيب .
وعندما كان يفسر القرآن الكريم يحرص علي أن ينقلك إلي جو التنزيل ويسبح بك في بحر من تجليات الوحي والإيمان بالله – فهو يتحدث مثلاً عن فرعون الحاكم وموسي الداعية النبي فلا تلبث أن تشعر بأنه يصف لك واحداً من المجتمعات المعاصرة – وتري الموضوع بوضوح أن القرآن نزل ليقضي في مشكلتك الحاضرة التي تهمك وتعتمل في نفسك فتخرج لتتناول المصحف لتطلع علي القصة بينك وبين نفسك من جديد .
ولم تكن الخطابة تعنيه إلا كوسيلة لتجمع القلوب . إن ما بعد الخطبة هو المطلوب قد تكون جلسة تعارف ، وقد تكون جلسة حوار ومناقشة وقد تكون حالة من حالات العبادة علي الطريقة الشرعية . وبهذه المناسبة نذكر أنه – رحمه الله – قد حرص علي تنقية جو العبادة مما كان يسيطر علي غالبية المجتمع المصري بالذات من مبالغات وخرافات فوضع رسالة في آداب الذكر والذاكرين ، وضح فيها ما يجب التقيد به مما ورد في السنة المطهرة والأثر الثابت ونبذ ما سوى ذلك مما أحدثه المبتدعة في حلقات الذكر من رقص وطبول وتصفيق وأناشيد وهرج وتظاهر وكلام لا يناسب حالة الذاكرين .
لقد بين الحكم الشرعي في أدب زيارة القبور مستنكراً الطواف حول القبر والتمسح به والصلاة إلي القبر وطلب الحاجات من الأموات المقبورين مهما كانت منزلتهم ، بل ندعو لهم ونسأل الله لهم الرحمة والمغفرة [ إلا أن تكون الزيارة لقبر رسول الله صلي الله عليه وسلم فنصلي ونسلم عليه ونسأل الله له الوسيلة والدرجة الرفيعة ] .
دعا إلي دوام تلاوة القرآن الكريم وأن يكون لكل مسلم " ورد " يومياً من كتاب الله حتى لا يهجر القرآن – ثم بين آداب التلاوة وما يلزم فيها وكذلك الشأن في سائر الطاعات كختم الصلاة والمناجات . ووضع رسالة في الأذكار وسماها " المأثورات " أي الوارد بسند صحيح عن النبي صلي الله عليه وسلم .
والأهم من عملية التأليف ، هو الممارسة العملية سواء فرادي أو في جماعة علي مدى سنين طويلة وهذا ما حدث بالفعل . ولهذا وقع احتكاك بدرجات متفاوتة بين أعضاء جماعة
الإخوان في المدن والأقاليم وبين ورثة الطرق وأتباع المشايخ الذين لا يستطيعون اعتراضاً ولا مناقشة ، وشعارهم " أن المريد مع شيخه كالميت بين يدي المغسل " – علي أن بعض المشايخ الطرق قد انضموا بكامل أتباعهم لدعوة الإخوان عندما اقتنعوا أنها أكثر انطباقاً علي تعاليم الإسلام الحنيف . نقول كان
حسن البنا شديد الحرص علي تأليف قلوب المسلمين جميعا وهو أشد عناية بالطبقة المثقفة المستنيرة إذا وجد فيها بصيصاً من أمل في الميل إلي هدي الإسلام .
لا تكونوا منفرين .. !! ذات مرة استمع إلي بعض الإخوان يهاجمون ضيفاً جديداً علي الدار بشأن خاتم من الذهب كان يحمله في يده .. فاستدعاهم فيما بعد وقال لهم : ( لا تكونوا منفرين .. ولا تستنفدوا طاقة الإرشاد في أغراض جانبية – واعمدوا لمهام الأمور – ولو كسبتم هذا بحسن الخلق فسوف يخلع الخاتم بنفسه عاجلا أو آجلا ) .
وكان يحب العمل ويدعو إليه ويعيب كثرة الكلام والتورط في الجدليات ، ومازلت أذكر حين كان يضرب بيده علي المنضدة في الدرس العام ...يكررها مرات – ومن كلماته ( المراء لا يأتي بخير ) وقوله – ( لا تخلطوا قضية الذات بقضية الحق ) أي لا تتعصبوا لذاتكم وآرائكم فيخرجكم ذلك عن الحق الذي يحبه الله تعالي .
قال له أحد
الإخوان ( نريد أن تعلمنا الخطابة وفنون الدعوة ) فأجاب قائلا ( سيروا في القرى وطرقات الأرياف مرة في اليابس ومرة في الطين وخالطوا هذا الشعب المؤمن وعندها يفتح الله عليكم وهو الفتاح العليم ) .
ومن أسلوبه في التربية التسامي بالأشخاص والأخلاق بطريقة تبدوا تلقائية لكنها مدروسة وحصيلة تجارب طويلة في تطبيق مبادئ علم النفس والاجتماع ، وقبل ذلك – لعلها ثمرة الإخلاص لله تعالي الذي يقول : ( واتقوا الله ويعلمكم الله والله بكل شيء عليم ) .
جاءه مؤلف يطلب منه أن يكتب تقريظا لكتاب أسماه ( لماذا أنا مسلم ) وكان الأستاذ يعرفه شخصيا فسأله قائلا : ( قل لي يا فلان هل أنت تقيم الصلاة ؟ ) قال الرجل : بصراحة لا .. قال الأستاذ إذن لماذا أنت مسلم ؟ أعفني من هذا الأمر ) . ومازال المؤلف يلح عليه حتى كتب مقدمة للكتاب ليست فيها أية إشارة للكتاب ولا لمؤلفه إنما هي عن جمال الإسلام وتعاليمه .
وقد دعي إلي حفل عزاء أقيم لوالد أحد
الإخوان – وقيل له إن المتوفى كان سكيرا لا يصلي فتحرج الإمام من إطرائه وتأنيبه – فكان من قوله - : ( كان – رحمه الله – لا يجاهرن بمعصية الله وكان إذا خوف من الله خاف ) .
وكان يقتدي برسول الله في أحواله قدر الاستطاعة ، فمن ذلك هديه عليه السلام في تغيير الأسماء القبيحة سأل أخا عن أسمه فقال ( عبد الرسول ) فقال سم نفسك ( عبد الصبور ) فليس للرسول عباد . ونزل في بلدة ( تدارك ) فقال أهلها ( تل الاراك ) ولقي رجلا اسمه ( جحوم ) فقال إنما أنت ( نعوم ) .
ومن ذلك أنه كان يحاول الالتزام بالسنة ويدعو إخوانه إليها ، ولكن مع المرونة وتقدير الظروف ، جاءه بعض طلاب الجامعة المصرية وقد اختلفوا في إطلاق اللحى فقال لهم تعلمون أن إعفاء اللحية من سنن الفطرة – لا جدال في ذلك ... وبالنسبة لظروفكم في بعض المجتمعات فاعلموا أن الخير هو هدف الإسلام ... فمن وجد منكم مصلحة الدعوة الإسلامية في إعفائها فليفعل ، ومن وجد المصلحة في تأجيلها إلي حين – فليفعل – وكلاهما مأجور علي قدر نيته وإنما الأعمال بالنيات .
ومن طرائف الذكريات أن جاءه شاب ممن يدرسون في مدرسة الفنون التطبيقية وقالوا نحن صائمون في رمضان وعندنا درس الطبيعة الحية نرسم فيه امرأة عارية فما حكم صيامنا وماذا نفعل ؟ قال : اذهبوا إلي مدير المدرسة في جمع منظم واشرحوا له ذلك ، فذهبوا إليه رجلاً إيطاليا فقال لهم ( إني أشكركم وأحترم دينكم وسأعالج الشكوى ) وفي الحصة التالية قدم لهم رجلا عاريا تماما ليرسموه .. وسكت الطلبة المساكين وخافوا أن يقولوا للمدير : ( هذا دين ) فيقول لهم : ( هذه سياسة ) .
لقد طرحت دعوى
الإخوان في سوق الفكر جملة من المفاهيم التي تبدو جديدة – وهي في الواقع من أصول الدين ... كان أتباع الأحزاب يتهمون الإخوان بمحاولة قلب نظام الحكم فكانوا يردون عليهم قائلين : ( إنه مقلوب ونريد أن نعدله ) .
ولقد نشأ المرشد نشأة صوفية كما تحدث عن نفسه في مذكراته الخاصة ( انظر مذكرات الدعوة والداعية ) ولكنه لاحظ في بعض طرائق الصوفية جملة من الأخطاء لا يقرها الدين – بعضها في الفكر وبعضها في السلوك – فجاءت دعوة الإخوان آخذة بجوهر التصوف رافضة ماعدا ذلك من الخرافات والشطحات والشركيات .
حسن البنا والهيئات والجماعات واتصل بجماعات مدنية وهيئات اجتماعية لكنه لاحظ تهاونهم في أمر العبادة وجهلهم بأصول العقيدة ، فجاءت دعوة
الإخوان شاملة لأمر الدنيا والدين . ودرس المرشد الدعوات القومية والوطنية ، ووجد فيها خليطا من الملل والمفاهيم حتى لا يكاد الكثيرون يعرفون مدلولها ولا حدودها .
فخرج فيها ببيان أعلن في رسائل
الإخوان خلاصته أنه إذا كانت هذه الدعوات القومية تتخذ تمهيدا ومقدمات لخدمة الدين فلا بأس بها – وإن كانت بها خلفيات سرية وقوى توجهها للبعد بالناس عن الوحدة الإسلامية فلا تقبل عندنا ، واضطربت البيئة المصرية بدعوى الديمقراطية والتيارات السياسية وساد فيها الجدل والخصومات القبلية والعائلية واستخدمت في الانتخابات وسائل غريبة كالعنف والغش والرشوة .
فخرجت دعوة
الإخوان علي الناس بتصور دقيق لوظيفة الحاكم وطريقة اختياره – مستمدة من هدي
الإسلام وتاريخ الخلفاء ، وطريقة تربط السياسة بآداب الدين – لكنها للأسف لم تجد سبيلاً إلي النور لأن بعض الحاكمين وجدوها لا تحقق آمالهم ولا يصلون من خلالها إلي ما يريدون .
الإسلام وفهم الإخوان المسلمين ظهرت دعوة
الإخوان في وقت تاهت فيه معالم
الجهاد في سبيل الله وأطلق الناس لقب الشهيد علي كل من هب ودب فقامت بتجلية معاني
الجهاد الحق – ومعني " الموت في سبيل الله " وأثارت في نفوس الشباب معاني الرجولة الحقة والعفة والبذل والعطاء – مازلت أذكر تفسيره للآيات التالية من قوله تعالي في سورة البقرة :
(أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (246) وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (247) وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آَيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آَلُ مُوسَى وَآَلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (248)فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (249) وكيف صفاء طالوت باختبارات عملية .. بأن منعهم وهم في أشد حالات الإجهاد والعطش من أن يشربوا إلا غرفة واحدة من النهر .
كانت له جولات في هذه المعاني ينقلك من خلالها إلي جو نظيف عالٍ تتسامي فيه الأرواح التي طال خلودها إلي الأرض .
ولما ظهرت الدعوة إلي إنقاذ فلسطين رامي أفراد
الإخوان من سكان المدن والقرى علي ساحة الفداء ، وجهزوا أنفسهم بالقليل الذي يملكونه وودعوا الأهل والأحباب وساروا مستبشرين ليس فقط لإنقاذ فلسطين بل لإنقاذ أنفسهم من النار إن هم قعدوا عن الجهاد وقد فتح بابه . أذكر أن المركز العام بعث اثنين من دعائه إلي مدينة كفر صقر
بالشرقية للإشراف علي تجهيز مجموعة من المجاهدين هناك ، وأقام الناس سرادقاً لتوديع المجاهدين الذين باع كل منهم بقرته أو حماره واشتري بندقية وجربندية واسعد للرحيل ووقف أحد دعاة المركز العام لا ليخطب ولكن ليدعو بهذا الدعاء : " اللهم إن عبادك هؤلاء قد خرجوا في سبيلك وابتغاء مرضاتك فإن كانوا صادقين فارزقهم الشهادة " ويضج السرادق بقول " آمين " ويعود المندوب فيقول : " اللهم انصرهم علي أعدائهم ولو لم يعودوا إلي وطنهم " فيقول آباؤهم وأمهاتهم من وراء السرادق بصوت مرتفع " آمين يارب العالمين " .
واعتقد أن الله قد استجاب هذا الدعاء تماما وبالكامل فقد كانوا عشر فيما أذكر استشهد منهم سبعة في المعارك التي دارت حول معسكر البرج وبيت المقدس ورجع منهم ثلاثة استشهدوا في سجون مصر لأنهم اتهموا بأنهم إرهابيون مع كل من عاد من المجاهدين .
إن فكرة الجهاد في دعوة
الإخوان لقيت الكثير فوق الكثير فيما يتصل فيها بالجهاد ضد الاستعمار البريطاني وما يتصل فيها بالجهاد ضد أوضاع مصر التي بلغت إذ ذاك ذروة الفساد . التقت كلها في منصب واحد – داخل أجهزة البوليس السياسي المصري – الذي كان يوجه من المستعمرين – فطبخها طبخة حسنة تناولتها أجهزة الإعلام المحلية ثم العالمية ثم تناولتها أجهزة التعذيب والإبادة فيما بعد – ثم تعذر علي كل العارفين أن يقولوا فيها كلمة حق للتاريخ – منذ أربعين سنة إلي يوم الناس هذا .... حيث أمكن أن تنكشف بعض الحقائق الآن ولقيت صناعة الظلم هذه هوى عند بعض الدول العربية الأخرى وربما بنفس التوجيه الخارجي الذي كان ينزل الوحي علي حكام مصر – فأخذ محنة
الإخوان وجميع الدعاة إلي الله من الجماعات الآخرى المماثلة في العالم العربي مصيرا واحداً – هو القتل والتشريد .
ولقد كان
حسن البنا يستشعر ذلك من أول يوم قام فيه بتلك الدعوة ولذلك رأي أن يصارح أتباعه بما تنطوي عليه دعوتهم الإسلامية . وربما استطاع عشرات الآلاف من الأحياء الذين سمعوه يكرر من فوق منابر الخطابة قول الله تعالي من أوائل سورة العنكبوت
( الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آَمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (3) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (4) ) .
وقوله عن ورقة بن نوفل للنبي صلي الله عليه وسلم في أول عهد الدعوة . " ليتني فيها جذعا إذ يخرجك قومك " . قال النبي : " أو مخرجي هم " ؟ قال : " نعم ما دعا بمثل ما تدعو إليه أحد من قبلك إلا أوذي " .
وإليكم تلك الفقرة الصريحة الرائعة من رسالة كتبها وهو في سجن قنا وجاءت إلينا مهربة مع أحد الجنود لأنه كان يتوقع الموت هناك " أيها الأخوة إنكم ستعتقلون وتشردون " . ولو أن
حسن البنا يريد الاستكثار من الأعوان علي حساب الحق ما أقدم علي هذه المصارحة التي أفقدته بالفعل بعض الأتباع . ومما ساعد علي تثبيت محبته في النفوس " خلق الإنصاف " لقد كان رحمه الله يحب الإنصاف ولا يمنعه شيء من أن يحسم القضايا ويقول للمخطئ أنت مخطئ ويرد الأمور إلي نصابها بدءا بالأهم ثم المهم .
وكان لماحا شديد الذكاء فما يكاد يبصر أحد العلماء أو أصحاب المكانة بين صفوف الوافدين علي مجتمعات الإخوان حتى يؤثر ويقدمه للإمامه أو للحديث ويشعره بالتقدير والاحترام ويقول في ذلك " إن كسب القلوب أولي من كسب المواقف " .
ومن رسائله الفعالة في جمع شتات الأمة وتأليف القلوب أنه كان يكره الغيبة ويحذر من الإصغاء إليها – وكثيرا ما كان يقول لحامل الإخبار " هل تمانع في أن أواجه بينكما ؟ فإن قال " لا مانع " كلف أحد المسؤلين بأن يرتب لذلك سريعا ، وإن تهرب من المواجهة قال له " اعتبر أني لم أسمع ولم تقل " وكان يقول " اتهم نفسك وأحسن الظن بأخيك " ويكرر الحكمة القائلة " التمس لأخيك من عذر إلي سبعين عذر فإن لم تجد فقل لعل له عذراً لا أعرفه " . ومن شعارات الدعوة مع المخالفين " نتعاون فيما اتفقنا عليه ويعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه " . وهذا ولا شك من أفضل القواعد الأساسية لنجاح التعاون علي كل المستويات إذ لا سبيل للاتفاق الكامل علي كل القضايا مع وجود التناقض والتعارض الكبير بين مختلف الأمم والأفراد .
النظام والانضباط وكان منضبطا يدعو للانضباط . ويستشهد بقول علي ابن أبي طالب رضي الله عنه " إن من أصحابي من أرجو دعوته وأرد شهادته " أي أرفض شهادته لعدم ضبطه لسبب من الأسباب . ويستشهد بما روي عن عمر رضي الله عنه في الحكم علي الناس عندما جاء رجل شهد علي آخر فقال له : هل أنت جاره الأدنى الذي يعرف مدخله ومخرجه قال لا – قال هل عاملته بالدرهم والدينار قال لا – قال هل خالطته في السفر الذي تعرف فيه أخلاق الرجال قال لا – قال لعلك رأيته قائما في الصلاة يرفع رأسه تارة ويخفضها أخري قال نعم . قال : فأنت لا تعرفه " .
ووضع نظام الكشافة والجوالة لتعويد
الإخوان النظام والانضباط والطاعة في ظل الحب والاختيار ... لا في القهر وخوف العقوبة . وقد حقق هذا النظام أغراضه علي أحسن وجه ... وقد حكي لنا أن أحمد حسنين باشا حضر معه استعراضا لفرقة كشفية من فرق الإخوان وكان حسنين باشا رئيسا للكشافة المصرية في ذلك الوقت ...ولاحظ وجود تشكيلة الشباب والعجائز وذوي اللحى والهيئات الغربية وكان جمعا كثيفا من يتقدمهم حملة المصاحف الكبيرة .. ... إلخ فقال للمرشد " كيف جمعتم هؤلاء من أقصي البلاد ؟ إننا نقدم لهم كل التسهيلات والملابس والنفقات لا يجتمعون علينا إلا بشق الأنفس .... فماذا فعلت مع هؤلاء ؟ فضحك المرشد إلينا وقال " شيء يسير جدا .... قلنا لهم لا إله إلا الله محمد رسول الله فجاءوا – وعلي نفقتهم الخاصة . والواقع أن نظام الكشافة نافع جدا للشباب لو سلم من الهزل والهزال والسخرية وإضاعة الوقت فيما لا يجدي .
مهما قيل في تاريخه فإن أتباعه جميعا يعلمون حقيقة تطمئنهم علي مسيرتهم وهي : أن منهج الجماعة ليس من وضع أحد وليس جديدا مبتكر إنما هو تجديد لأمر العقيدة والشريعة الإسلامية التي أنزل الله وهم يرتبطون في ذلك بالحق .... لا بالأشخاص .
كيف دفن ...الإمام الشهيد ؟ في فبراير سنة
1949 اغتالت الأيدي الآثمة
حسن البنا بعد حياة قصيرة ولكنها حافلة .. غير فيها كثيراً من المعالم وأحدث فيها كثيراً من المعالم ، لقد ربي
حسن البنا جيلا من الشباب علي الإسلام الصحيح .. كما فهمه السلف الصالح .. إيمان صحيح .. وفهم صحيح .. وتطبيق رائع ... إسلام في الصدور وعلي الجوارح وفي مجال الحياة .. زلزل العروش وأقض مضاجع السادة المستعمرين وهدد مستقبل 20 العملاء وقطع الطريق أمام المستورد من الأفكار والمبادئ ، ومن ثم فكانت المؤامرة ... وكانت الفاجعة ... دبروها بليل ... ونفذوها غدراً وخسرت مصر خسارة عظيمة ... ولكن بقي الأمل في من آمن بالرسالة وفهم المبادئ وأكد العزم علي السير في الطريق .
وبعد اغتيال
الإمام الشهيد كتبت الكتلة جريدة حزب الكتلة الوفدية تصف جنازته وكيف كان الآثمون يخافون حسن البنا في حياته وفي مماته ، وكيف كانوا أخساء في الجريمة وأخساء إزاء أبسط القواعد الإنسانية .
نشرت جريدة الكتلة التي كان يصدرها الأستاذ
مكرم عبيد باشا وصف دفن
الإمام الشهيد ، وما رافقه من أحداث وفظائع وقد جعلته تحت عناوين تكفي تلاوتها للعن الظالمين المجرمين وهي : " القبض علي المعزين ، ومنع الصلاة علي جثمان الفقيد ، منع تلاوة القرآن علي روحه ... " ثم نشرت الوصف التاريخي الآتي :
في آخر الليل :
نقلت جثة الفقيد إلي بيته وتحرسها سيارات مملوءة بفريق من رجال البوليس المسلحين وقد أنساهم هول الجريمة أن الموتى لا يتكلمون ولا ينطقون ؟ وفي أحد شوارع الحلمية ، وقف القافلة ، ونزل الجند ، فأحاطوا ببيت الفقيد ،، ولم يتركوا ثقبا ينفذ إليه إنسان إلا سدوه بجند وسلاح .
أما والد الشيخ حسن البنا ، ذلك الشيخ الهرم الذي تجاوز التسعين عاما ، فلم ينؤ بها ... ولم تبد عليه عوامل السنين كما بدت في هذه الليلة النكباء ، فقد عرف بخبر وفاة ولده من أحد الضباط ساعة وقوعها ، وظل ساهراً تفجعه الأحزان منتظراً الفجر ليؤدي فريضة الله ويقول له :
سبحانك .. عدالتك يا ربي ..
لقد قتلوا ولدي ....
وتتابعت علي باب المسكن طرقا كان صداها يطحن قلب الشيخ طحن الرحى .
لا بكاء ولا عويل :
كان الوالد هو وحده الذي يعلم وينتظر ، فإن أشقاء الفقيد جميعا كانوا داخل المعتقلات . وفتحوا الباب وأدخلوا الجثة ، وتشجع الوالد المحطم ، بالبكاء فقالوا له : لا بكاء ولا عويل ... بل ولا مظاهر حداد ، ولا أحد يصلي عليه سواك .... ولنترك الشيخ أحمد البنا والد الشيخ حسن يتم القصة :
" أبلغت نبأ موته في الساعة الواحدة ، وقيل لي أنهم لن يسلموا إلي الجثة ، إلا إذا وعدتهم بأن تدفن في الساعة التاسعة بلا احتفال ، وإلا فإنهم سيضطرون إلي حمل الجثة من مستشفي القصر العيني إلي القبر . واضطررت إزاء هذه الأوامر إلي أن أعدهم بتنفيذ كل ما تطلبه الحكومة رغبة مني في أن تصل جثة ولدي إلي بيته ، فألقي عليه نظرة أخيرة ، وقبيل الفجر حملوا الجثة إلي البيت ، متسللين فلم يشهدها أحد من الجيران ، ولم يعلم بوصولها سواى .
حصار حول البيت :
وظل حصار البوليس مفروضا ، لا حول البيت وحده ، بل حول الجثة نفسها ، ولا يسمحون لإنسان بالاقتراب منها ، مهما كانت صلته بالفقيد . وقمت بنفسي بإعداد جثة ولدي للدفن .. فإن أحداً من الرجال المختصين بهذا لم يسمح له بالدخول . ثم أنزلت الجثة ، حيث وضعت في النعش ... وبقيت مشكلة من يحملها إلي مقرها الأخير . طلبت إلي رجال البوليس أن يحضروا رجالا يحملون النعش فرفضوا !! قل لهم : ليس في البيت رجال . فأجابوا : فليحمله النساء ، وخرج نعش الفقيد محمولا علي أكتاف النساء .
جنازة تشيعها النظرات :
ومشيت الجنازة الفريدة في الطريق ، فإذا بالشارع كله ، وقد صف برجال البوليس ، وإذا بعيون الناس من النوافذ والسخط علي الظلم المسلح الذي احتل جانبي الطريق .
مسجد خال :
وعندما وصلنا إلي جامع قيسون للصلاة علي جثمان الفقيد كان المسجد خاليا من الناس ، حتى من الخدم .. وسبقوا إلي بي الله وأمروا من فيه بالانصراف ، ريثما تم الصلاة علي جثمان ولدي ..
صلاة ودموع :
ووقفت أمام النعش أصلي ، فانهمرت دموعي ، ولم تكن دموعا ، بل كانت ابتهالات إلي السماء أن يدرك الله الناس برحمته . ومضي النعش إلي مدافن الإمام فوارينا التراب هذا الأمل الغالي ، وعدنا إلي البيت الباكي الحزين .. "
ومضي النهار وجاء الليل ، ولم يحضر أحد من المعزين ، لأن الجنود الأسداء منعوا الناس من الدخول ، أما الذين استطاعوا الوصول إلينا فلم يستطيعوا العودة إلي بيوتهم فقد قبض عليهم ، وأودعوا المعتقلات إلا شخصا ، واحداً هو مكرم عبيد باشا وبعد ذلك سردت الكتلة ما يلي :
هي الدنيا :
في اثني عشرة ساعة قتل الشيخ البنا ، وشرح ، وغسل ودفن ، وانطوت صفحات حياته ... عادت النساء الثلاث اللاتي حملن النعش علي أكتافهن ، وعاد الوالد الواله الحزين ...
وقبل أن يغشي الظلام مدافن الإمام الشافعي كانت ثلة من الجنود ، تحاصر الطرق المؤدية إلي المقبرة ، وقوات كبيرة تحيط بمنزل الفقيد لتمنع الداخلين ولو كانوا من مرتلي آي الذكر الحكيم ، وتقبض علي الخارجين ولو كانوا من جيران الراحل الكريم