خامسا: إبطال وقوع صلب المسيح بالدليل التاريخي
يدعي النصارى أن المسلمين بقولهم بنجاة المسيح من الصلب ينكرون حقيقة تاريخية أجمع عليها اليهود والنصارى الذين عاصروا صلب المسيح ومن بعدهم. فكيف لنبي الإسلام وأتباعه الذين جاءوا بعد ستة قرون من الحادثة أن ينكروا ذلك؟ !!
قد يبدو الاعتراض النصراني وجيهاً لأول وهلة، لكن عند التأمل في شهادة الشهود تبين لنا تناقضها وتفكك رواياتهم.
ولدى الرجوع إلى التاريخ والتنقيب في رواياته وأخباره عن حقيقة حادثة الصلب، ومَن المصلوب فيها ؟ يتبين حينذاك أمور مهمة: -
- أن قدماء النصارى كثر منهم منكرو صلب المسيح، وقد ذكر المؤرخون النصارى أسماء فرق كثيرة أنكرت الصلب.
وهذه الفرق هي: الباسيليديون والكورنثيون والكاربوكرايتون والساطرينوسية والماركيونية والبارديسيانية والسيرنثييون والبارسكاليونية والبولسية والماينسية، والتايتانيسيون والدوسيتية والمارسيونية والفلنطانيائية والهرمسيون.
وبعض هذه الفرق قريبة العهد بالمسيح، إذ يرجع بعضها للقرن الميلادي الأول ففي كتابه " الأرطقات مع دحضها " ذكر القديس الفونسوس ماريا دي ليكوري أن من بدع القرن الأول قول فلوري: إن المسيح قوة غير هيولية، وكان يتشح ما شاء من الهيئات، ولذا لما أراد اليهود صلبه؛ أخذ صورة سمعان القروي، وأعطاه صورته، فصلب سمعان، بينما كان يسوع يسخر باليهود، ثم عاد غير منظور، وصعد إلى السماء.
ويبدو أن هذا القول استمر في القرن الثاني، حيث يقول فنتون شارح متى: " إن إحدى الطوائف الغنوسطية التي عاشت في القرن الثاني قالت بأن سمعان القيرواني قد صلب بدلاً من يسوع".
وقد استمر إنكار صلب المسيح، فكان من المنكرين الراهب تيودورس (560م) والأسقف يوحنا ابن حاكم قبرص (610م) وغيرهم.
ولعل أهم هذه الفرق النكرة لصلب المسيح الباسيليديون؛ الذين نقل عنهم سيوس في " عقيدة المسلمين في بعض مسائل النصرانية " والمفسر جورج سايل القول بنجاة المسيح، وأن المصلوب هو سمعان القيرواني، وسماه بعضهم سيمون السيرناي، ولعل الاسمين لواحد، وهذه الفرقة كانت تقول أيضاً ببشرية المسيح.
ويقول باسيليوس الباسليدي: " إن نفس حادثة القيامة المدعى بها بعد الصلب الموهوم هي من ضمن البراهين الدالة على عدم حصول الصلب على ذات المسيح".
ولعل هؤلاء هم الذين عناهم جرجي زيدان حين قال: " الخياليون يقولون: إن المسيح لم يصلب، وإنما صلب رجل آخر مكانه ".
ومن هذه الفرق التي قالت بصلب غير المسيح بدلاً عنه: الكورنثيون والكاربوكرايتون والسيرنثيون.
وقالوا بصلب يهوذا الذي يذكر المستشرق المفسر جورج سايل بأنه كان يشبه المسيح في خَلْقه.
ومما يؤيد هؤلاء: الخلاف في كيفية موت يهوذا.
وثمة فِرق نصرانية قالت بأن المسيح نجا من الصلب، وأنه رفع إلى السماء، ومنهم الروسيتية والمرسيونية والفلنطنيائية , وهذه الفرق الثلاث تعتقد ألوهية المسيح، ويرون القول بصلب المسيح وإهانته لا يلائم البنوة والإلهية.
كما تناقل علماء النصارى ومحققوهم إنكار صلب المسيح في كتبهم، وأهم من قال بذلك الحواري برنابا في إنجيله.
ويقول ارنست دي بوش الألماني في كتابه " الإسلام: أي النصرانية الحقة " ما معناه: إن جميع ما يختص بمسائل الصلب والفداء هو من مبتكرات ومخترعات بولس، ومن شابهه من الذين لم يروا المسيح، لا في أصول النصرانية الأصلية.
ويقول ملمن في كتابه " تاريخ الديانة النصرانية " : " إن تنفيذ الحكم كان وقت الغلس، وإسدال ثوب الظلام، فيستنتج من ذلك إمكان استبدال المسيح بأحد المجرمين الذين كانوا في سجون القدس منتظرين تنفيذ حكم القتل عليهم كما اعتقد بعض الطوائف، وصدقهم القرآن ".
وأخيراً نذكر بما ذكرته دائرة المعارف البريطانية في موضوع روايات الصلب حيث جعلتها أوضح مثال للتزوير في الأناجيل.
ومن المنكرين أيضاً صاحب كتاب " الدم المقدس، وكأس المسيح المقدس " فقد ذكر في كتابه أن السيد المسيح لم يصلب، وأنه غادر فلسطين، وتزوج مريم المجدلية، وأنهما أنجبا أولاداً، وأنه قد عثر على قبره في جنوب فرنسا، وأن أولاده سيرثون أوربا، ويصبحون ملوكاً عليها.
وذكر أيضاً أن المصلوب هو الخائن يهوذا الأسخريوطي، الذي صلب بدلاً من المسيح المرفوع.
وإذا كان هؤلاء جميعاً من النصارى، يتبين أن لا إجماع عند النصارى على صلب المسيح، فتبطل دعواهم بذلك.
ويذكر معرِّب " الإنجيل والصليب " ما يقلل أهمية إجماع النصارى لو صح فيقول بأن أحد المبشرين قال له: كيف يُنكر وقوع الصليب، وعالم المسيحية مطبق على وقوعه ؟
فأجابه: كم مضى على ظهور مذهب السبتيين ؟ فأجاب القس المبشر: نحو أربعين سنة.
فقال المعرِّب: إن العالم المسيحي العظيم الذي أطبق على ترك السبت خطأ 1900 سنة، هو الذي أطبق على الصلب.
وأما إجماع اليهود فهو أيضاً لا يصح القول به، إذ أن المؤرخ اليهودي يوسيفوس المعاصر للمسيح والذي كتب تاريخه سنة 71م أمام طيطوس لم يذكر شيئاً عن قتل المسيح وصلبه.
أما تلك السطور القليلة التي تحدثت عن قتل المسيح وصلبه، فهي إلحاقات نصرانية كما جزم بذلك المحققون وقالوا: بأنها ترجع للقرن السادس عشر، وأنها لم تكن في النسخ القديمة.
ولو صح أنها أصلية فإن الخلاف بيننا وبين النصارى وغيرهم قائم في تحقيق شخصية المصلوب، وليس في وقوع حادثة الصلب [ وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ] (النساء: 157) وهذا حال اليهود والنصارى فيه.
ولكن المؤرخ الوثني تاسيتوس كتب عام 117م كتاباً تحدث فيه عن المسيح المصلوب.
وعند دراسة ما كتبه تاسيتوس، يتبين ضعف الاحتجاج بكلامه، إذ هو ينقل إشاعات ترددت هنا وهناك، ويشبه كلامه أقوال النصارى في محمد في القرون الوسطى.
ومما يدل على ضعف مصادره، ما ذكرته دائرة المعارف البريطانية، من أنه ذكراً أموراً مضحكة، فقد جعل حادثة الصلب حادثة أممية، مع أنها لا تعدو أن تكون شأناً محلياً خاصاً باليهود، ولا علاقة لروما بذلك.
ومن الجهل الفاضح عند هذا المؤرخ، أنه كان يتحدث عن اليهود - ومقصده: النصارى. فذكر أن كلوديوس طردهم من رومية، لأنهم كانوا يحدثون شغباً وقلاقل يحرضهم عليها " السامي " أو " الحسن " ويريد بذلك المسيح.
ومن الأمور المضحكة التي ذكرها تاسيتوس قوله عن اليهود والنصارى بأن لهم إلهاً، رأسه رأس حمار، وهذا هو مدى علمه بالقوم وخبرته.
كما قد شكك المؤرخون بصحة نسبة العبارة إلى تاسيتوس، ومنهم العلامة أندريسن وصاحبا كتابي " ملخص تاريخ الدين " و " شهود تاريخ يسوع ".
وقد تحدث أندريسن أن العبارة التي يحتج بها النصارى على صلب المسيح في كلامه مغايِرة لما في النسخ القديمة التي تحدثت عن CHRESTIANOS بمعنى الطيبين، فأبدلها النصارى، وحوروها إلى: CHRISTIANOS بمعنى المسيحيين.
وقد كانت الكلمة الأولى ( الطيبين ) تطلق على عُبّاد إله المصريين "أوزيريس"، وقد هاجر بعضهم من مصر، وعاشوا في روما، وقد مقتهم أهلها وسموهم: اليهود، لأنهم لم يميزوا بينهم وبين اليهود المهاجرين من الإسكندرية، فلما حصل حريق روما؛ ألصقوه بهم بسبب الكراهية، واضطهدوهم في عهد نيرون.
وقد ظن بعض النصارى أن تاسيتوس يريد مسيحهم الذي صلبوه، فحرف العبارة، وهو يظن أنه يصححها.
ويرى العلامة أندريسن أن هذا التفسير هو الصحيح.
وإلا كان هذا المؤرخ لا يعرف الفرق بين اليهود والنصارى، ويجهل أن ليس ثمة علاقة بين المسيح وروما.
وهكذا فإن التاريخ أيضاً ناطق بالحقيقة، مُثبت لما ذكره القرآن عن نجاة المسيح وصلب غيره
سادسا: إبطال الصلب بنبوءات التوراة
تحتل النبوءات في الفكر المسيحي مكانة سامقة، جعلت بعض النصارى يشترطون لصحة النبوة أن يسبقها نبوءة. وحادثة صلب المسيح - كما يعتبرها النصارى - أحد أهم أحداث المعمورة، فكان لابد وأن يتحدث عنها الأنبياء في أسفارهم، وأن يذكرها المسيح لتلاميذه.
فهل أخبرت الأنبياء بصلب المسيح وقيامته ؟ وهل أخبر المسيح تلاميذه بذلك ؟
والإجابة النصرانية عن هذا التساؤل كانت بالإيجاب، وأن ذلك في مواضع كثيرة من الأناجيل والرسائل والأسفار التوراتية.
ولعل من نافلة القول أن نذكر بأن النصارى يعتبرون أسفار التوراة جزءً مقدساً كتابهم المقدس، كيف لا والأناجيل ما فتئت تحيل إلى هذه الأسفار، تستمد منها تنبؤاتها المستقبلية، التي تحققت في شخص المسيح في حياته أو حين صلبه ؟
وللأسفار التوراتية دور عظيم في مسألة صلب المسيح، فقد أكثرت الأناجيل في هذه القصة من الإحالة إلى أسفار التوراة؛ التي يرونها تتنبأ بالمسيح المصلوب، وكانت نصف هذه الإحالات إلى المزامير المنسوبة لداود وغيره وقد ذكر عيسى عليه السلام لتلاميذه ضرورة أن تتحقق فيه النبوءات التوراتية بقوله: " لابد أن يتم جميع ما هو مكتوب عني في ناموس موسى والأنبياء والمزامير" ( لوقا 26/44 ) ويقول: " فتشوا الكتب …. وهي التي تشهد لي " ( يوحنا 5/39 ).
والنبوءات التي أحالت إليها الأناجيل بخصوص حادثة الصلب أربع عشرة نبوءة، ذكر متى منها ستاً، ومرقس أربعاً، ولوقا اثنتين، بينما ذكر منها يوحنا سبع نبوءات.
ونخلص من هذا إلى أهمية النبوءات التوراتية المتعلقة بصلب المسيح.
ويبالغ النصارى في التركيز على أهمية النبوءات التوراتية المتحدثة والمشيرة للمسيح وكثرتها، فيقول القمص سرجيوس في كتابه " هل تنبأت التوراة عن المسيح " : " فالمسيح ساطع في كل الكتاب المقدس في إشراق دائم، وليس كالشمس التي تغيب عن نصف الأرض ليلاً، إذ ليس في التوراة أو كتب الأنبياء جزء تغرب عنه شمس المسيح، بل يشع اسمه، وشخصه، وصفاته، وأعماله، وظروفه، وأحواله في التوراة، وكتب الأنبياء، وفي ثنايا سطورها نجد المسيح في كل جملة، وفي كل إصحاح، وفي كل سفر من أسفارها. وما حروفها وكلماتها إلا خطوطاً أو ظلالاً لصورة المسيح المجيدة.... فنحن المسيحيين لا نهتم أين نفتح التوراة وكتب الأنبياء لنجد الكلام عن المسيح.... "، ورغم ما في الكلام من مبالغة، فإننا - كما يقول منصور حسين - نستشف منه أهمية النصوص التوارتية في الدلالة على المسيح.
ولسفر المزامير وموضوع الصلب شاُن خاص يصفه سرجيوس فيقول " أما سفر المزامير فكان الهالة، التي أحاطت بكوكب يسوع، فتكلم حتى عن إحساساته العميقة، وآلامه المبرحة ناهيك عن صفاته وألقابه، أكثر من أي نبي آخر، ويمكننا القول، أن سفر المزامير هو سفر "مسيا" الخاص، بدليل أن الاقتباسات التي اقتبسها كتبة العهد القديم من سفر المزامير هذا بلغت نصف الاقتباسات المأخوذة من العهد القديم كله ".
ويؤكد عبد الفادي القاهراني أهمية المزامير في كتابه " رب المجد " بقوله: " لم يوجد كتاب مليء بالإشارات والرموز والنبوءات عن المسيح أكثر من كتاب المزامير هذا، وعليه فأهميته في نظر اللاهوتيين تفوق الوصف ".
لذلك فإن العلماء المسلمين ارتضوا محاكمة النصارى في هذه المسألة إلى أسفار التوراة، ذلك بأنه ليس من المقبول أن يتصور أحد أن اليهود يغيرون كتبهم لتتمشى مع معتقدات النصارى، لذا فهم يرتضون هذه الكتب معياراً للكشف عن الحقيقة.
وقبل أن نشرع، فإنه يحسن التنبيه إلى نقاط الاختلاف والاتفاق بين المسلمين والنصارى في مسألة الصلب.
النصارى يقولون بصلب المسيح، بينما يقول المسلمون بأنه لم يصلب، وأنه قد شُبه غيرُ المسيح به، ولا ينفون وقوع صلب لغيره، كما لا ينفون جملة ما ترويه الأناجيل من أحداث صاحبت الصلب أو سبقته، كحديث الأناجيل عن الدعاء الطويل للمسيح في البستان طالباً من الله أن ينجيه من الموت، وأن الجموع حضرت للقبض عليه، وأن ثمة من أخذ من ساحة البستان، وأن المأخوذ حوكم، وصلب، ثم دفن.
فالخلاف إنما هو في حقيقة المأخوذ والمصلوب، فيرى المسلمون أنه يهوذا، وأن لحظة الخلاص هي تلك التي أراد الجند أن يلقوا القبض فيها على المسيح، فسقطوا على الأرض، وتدافعت الجند ووقعت المشاعل من أيديهم، ثم نهضوا ليجدوا دليلهم يهوذا الأسخريوطي وحيداً في الساحة، فأخذوه وقد ألقى الله عليه شبه المسيح لينال جزاء خيانته لسيده.
وأما المسيح فقد نزلت ملائكة الله وصعدت به إلى السماء، لينجو من المؤامرة بحماية الله العظيم، وأعطي بذلك حياة طويلة تمتد إلى قبيل قيام الساعة حيث ينزل إلى الأرض عليه السلام لعيش عليها ويموت في سلام.. [ والسّلام عليّ يوم ولدتّ ويوم أموت ويوم أبعث حيّاً ] (مريم: 32).
ولسوف نستعرض منها في هذه العجالة ستة مزامير فقط، من نبوءات المزامير، نختصرها من دراسة منصور حسين الرائعة في كتابه الماتع " دعوة الحق بين المسيحية والإسلام"، والتي شملت ستة وثلاثين مزموراً، والمزامير الستة التي اختارها، يجمعها أنها مما يعتبره النصارى نبوءات تحدثت عن المسيح المصلوب.
أولاً: المزمور الثاني :
وفيه: " لماذا ارتجت الأمم، وتفكر الشعوب في الباطل، قام ملوك الأرض، وتآمر الرؤساء معا على الرب، وعلى مسيحه، قائلين: لنقطع قيودها ولنطرح عنا رُبُطهما.
الساكن في السماوات يضحك، الرب يستهزئ بهم، حينئذ يتكلم عليهم بغضبه، ويرجفهم بغيظه " ( المزمور 2/1 - 5 ).
والمزمور: يراه النصارى نبوءة بالمسيح الموعود. يقول د.هاني رزق في كتابه " يسوع المسيح ناسوته وألوهيته "عن هذا المزمور: " وقد تحققت هذه النبوءة في أحداث العهد الجديد، إن هذه النبوءة تشير إلى تآمر وقيام ملوك ورؤساء الشعب على يسوع المسيح لقتله وقطعه من الشعب، وهذا ما تحقق في أحداث العهد الجديد في فترتين، في زمان وجود يسوع المسيح له المجد في العالم " ويقصد تآمر هيرودس في طفولة المسيح، ثم تأمر رؤساء الكهنة لصلب المسيح.
ووافقه " فخري عطية" في كتابه " دراسات في سفر المزامير" و"حبيب سعيد" في "من وحي القيثارة " وويفل ل كوبر في كتابه "مسيا عمله الفدائي" وياسين منصور في "الصليب في جميع الأديان "، فيرى هؤلاء جميعاً أن المزمور نبوءة بالمسيح المصلوب.
وقولهم بأن النص نبوءة بالمسيح ورد في سفر أعمال الرسل: " فلما سمعوا رفعوا بنفس واحدة صوتاً إلى الله وقالوا: أيها السيد، أنت هو الإله صانع السماء والأرض والبحر وكل ما فيها. القائل بفم داود فتاك: لماذا ارتجّت الأمم وتفكر الشعوب بالباطل. قامت ملوك الأرض واجتمع الرؤساء معا على الرب وعلى مسيحه. لأنه بالحقيقة اجتمع على فتاك القدوس الذي مسحته هيرودس وبيلاطس البنطي مع أمم وشعوب إسرائيل، ليفعلوا كل ما سبقت فعيّنت يدك ومشورتك أن يكون" (أعمال 4/24-31).
ولا نرى مانعاً في موافقتهم بأن المزمور نبوءة عن المسيح، فالمزمور يتحدث عن مؤامرات اليهود عليه، وهذا لا خلاف عليه بين المسلمين والنصارى، وإنما الخلاف: هل نجحوا أم لا ؟ فبماذا يجيب النص ؟ يجيب بأن الله ضحك منهم واستهزأ بهم، وأنه حينئذ أي في تلك اللحظة أرجف المتآمرين بغيظه وغضبه.
هل يكون ذلك لنجاحهم في صلب المسيح، أم لنجاته من بين أيديهم، ووقوعهم في شر أعمالهم ؟
ثانياً: المزمور السابع :
وفيه: " يا رب، إلهي عليك توكلت، خلصني من كل الذين يطردونني، ونجني لئلا يفترس كأسد نفسي، هاشماً إياها، ولا منقذ.
يا رب، إلهي، إن كنت قد فعلت هذا، إن وجد ظلم في يدي، إن كافأت مسالمي شراً، وسلبت مضايقي بلا سبب، فليطارد عدو نفسي، وليدركها، وليدس إلى الأرض حياتي، وليحط إلى التراب مجدي، سلاه.
قم يا رب بغضبك، ارتفع على سخط مضايقي، وانتبه لي. بالحق أوحيت، ومجمع القبائل يحيط بك، فعد فوقها إلى العلا، الرب يدين الشعوب، اقض لي يا رب كحقي، ومثل كحالي الذي في، لينته شر الأشرار، وثبت الصديق، فإن فاحص القلوب والكلى: الله البار، ترسي عند الله مخلص مستقيمي القلوب.
الله قاض عادل، وإله يسخط كل يوم، إن لم يرجع يحدد سيفه: مد قوسه وهيأها، وسدد نحوه آلة الموت، يجعل سهامه ملتهبة.
هو ذا يمخض بالإثم، حمل تعباً، وولد كذباً، كرى جُبّاً حفره، فسقط في الهوة التي صنع، يرجع تعبه على رأسه، وعلى هامته يهبط ظلمه. أحمد الرب حسب بره، وأرنم لاسم الرب العلي". (مزمور 7/1-17 )
جاء في كتاب " دراسات في المزامير " لفخري عطية: " واضح أنه من مزامير البقية، إذ يشير إلى زمن ضد المسيح، وفيه نسمع صوت البقية، ومرة أخرى نجد روح المسيح ينطق على فم داود بالأقوال التي تعبر عن مشاعر تلك البقية المتألمة، في أيام الضيق العظيمة ".
والربط واضح وبيّن بين دعاء المزمور المستقبلي " يا رب، إلهي، عليك توكلت، خلصني من كل الذين يطردونني ونجني.... " وبين دعاء المسيح ليلة أن جاءوا للقبض عليه.
ثم يطلب الداعي من الله عوناً؛ أن يرفعه إلى فوق، في لحظة ضيقه " فعد فوقها إلى العلا "، ويشير إلى حصول ذلك في لحظة الإحاطة به " ومجمع القبائل - يحيط بك، فعد فوقها إلى العلا ".
ثم يذكر المزمور بأن الله " قاض عادل " فهل من العدل أن يصلب المسيح أم يهوذا ؟
ثم يدعو أن يثبت الصديق، وأن ينتهي شر الأشرار، ويؤكد لجوءه إلى الله، مخلص القلوب المستقيمة.
ثم يتحدث المزمور عن خيانة يهوذا. وقد جاء " مد قوسه وهيأها وسدد نحوه آلة الموت " (القُبلة) " ويجعل سهامه ملتهبة ".
ولكن حصل أمر عظيم، لقد انقلب السحر على الساحر، " هو ذا يمخض بالإثم، حمل تعباً، وولد كذباً، كَرَى جُبّاً، حفره فسقط في الهوة التي صنع، يرجع تعبه على رأسه وعلى هامته يهبط ظلمه " لقد ذاق يهوذا ما كان حفره لسيده المسيح، ونجا المسيح في مجمع القبائل إلى العلا.
ثم ينتهي المزمور بحمد الله على هذه العاقبة " أحمد الرب حسب بره، وأرنم لاسم الرب العلي " وهكذا نرى في هذا المزمور صورة واضحة لما حصل في ذلك اليوم، حيث نجى الله عز وجل نبيه، وأهلك يهوذا.
ولا مخرج للنصارى إزاء هذا النص إلا إنكاره، أو التسليم له، والقول بأن المسيح له ظلم، وله إثم، وأنه ذاق ما كان يستحقه، وأن الله عادل؛ بقضائه قتل المسيح، وأن ذلك أعدل وأفضل من القول بنجاته؛ وصلب يهوذا الظالم الآثم، جزاءً لفعله وخيانته، وإلا فعليهم الرجوع إلى معتقد المسلمين؛ بأن النص نبوءة عن يهوذا الخائن، ولا رابع لهذه الخيارات الثلاثة.
ثالثاً: المزمور العشرون :
وفيه: " ليستجب لك الرب في يوم الضيق. ليرفعك اسم إله يعقوب، ليرسل لك عوناً من قدسه، ومن صهيون ليعضدك، ليذكر كل تقدماتك، وليستسمن محرقاتك، سلاه، ليعطك حسب قلبك، ويتمم كل رأيك، نترنم بخلاصك، وباسم إلهنا نرفع رايتنا، ليكمل الرب كل سؤلك.
الآن عرفت أن الرب مخلص مسيحه، يستجيبه من سماء قدسه، بجبروت خلاص يمينه، هؤلاء بالمركبات وهؤلاء بالخيل، أما نحن: فاسم الرب إلهنا نذكره.
هم جثوا وسقطوا، أما نحن: فقمنا وانتصبنا، يارب: خلص، ليستجيب لنا الملك في يوم دعائنا" ( المزمور 20/1 - 9 ).
يقول هاني رزق في كتابه " يسوع المسيح في ناسوته ولاهوته ": " تنبأ داود النبي (1056 ق. م)، و(حبقوق النبي 726 ق. م)، بأن الرب هو المسيح المخلص، نبوءة داود النبي، مزمور 20/9 " الآن عرفت أن الرب مخلص مسيحه.... "
وفي كتاب " دراسات في سفر المزامير" "يؤكد فخري عطية" هذا، ويقول عن الفقرة التاسعة من هذا المزمور " في هذا العدد تعبير يشير في الكتب النبوية إلى ربنا يسوع المسيح نفسه، تعبير يستخدمه الشعب الأرضي عن المخلص العتيد ".
ولكن القراءة المتأنية لهذا المزمور ترينا أنه ناطق بنجاة المسيح، حيث يبتهل صاحب المزمور طالباً النجاة له في يوم الضيق، وليس من يوم مر على المسيح أضيق من ذلك اليوم الذي دعا فيه طويلاً، طالباً من الله أن يصرف عنه هذا الكأس " وإذ كان في جهاد؛ كان يصلي بأشد لجاجة، وصار عرقه كقطرات دم نازلة على الأرض " ( لوقا 22/44 ).
ويذكر النص إجابة دعائه وإعطاءه ملتمس شفتيه وسؤله وكل مراده " ليعطك حسب قلبك، ويتمم كل رأيك... ليكمل الرب كل سؤلك".
وهذ العون والنجاء لما سبق وتقدم به المسيح من أعمال صالحة. " ليذكر كل تقدماتك، وليستسمن محرقاتك".
وينص المزمور على اسم المسيح وأنه يخلصه من الموت في فقرة ظاهرة لا تخفى حتى على الأعمى" الآن عرفت أن الرب مخلص مسيحه، يستجيبه من سماء قدسه بجبروت خلاص " فالنص يذكر المسيح بالاسم، ويتحدث عن خلاصه، أن الله رفعه، وأنه أرسل له ملائكة يحفظونه " ليرفعك اسم إله يعقوب، ليرسل لك عوناً من قدسه".
ويبتهج المزمور لهذه النهاية السعيدة "نترنم بخلاصك، وباسم إلهنا نرفع رايتنا".
ويتحدث المزمور أيضاً عن تلك اللحظة العظيمة، لحظة الخلاص التي نجا فيها المسيح " هم جثوا وسقطوا، أما نحن فقمنا وانتصبنا " فهو يتحدث عن لحظة وقوع الجند كما في يوحنا " فلما قال لهم: إني أنا هو ؛ رجعوا إلى الوراء، وسقطوا على الأرض " ( يوحنا 18/6 ).
فدلالة هذا المزمور على نجاة المسيح أوضح من الشمس في رابعة النهار.
رابعاً: المزمور الحادي والعشرون :
وفيه: " يا رب، بقوتك يفرح الملك، وبخلاصك، كيف لا يبتهج جدا ً؟ شهوة قلبه أعطيته، وملتمس شفتيه لم تمنعه، سلاه. لأنك تتقدمه ببركات خير، وضعت على رأسه تاجاً من إبريز حياة، سألك فأعطيته، طول الأيام إلى الدهر والأبد عظيم، مجده بخلاصك، جلالاً وبهاء تضع عليه، لأنك جعلته بركات إلى الأبد، تفرحه ابتهاجاً أمامك، لأن الملك يتوكل على الرب، وبنعمة العلي لا يتزعزع.
تصيب يدك جميع أعدائك، يمينك تصيب كل مبغضيك، تجعلهم مثل تنور نار في زمان حضورك، الرب بسخطه يبتلعهم، وتأكلهم النار، تبيد ثمرهم من الأرض، وذريتهم من بين بني آدم، لأنهم نصبوا عليك شراً، تفكروا بمكيدة لم يستطيعوها، لأنك تجعلهم يقولون: تفوق السهم على أوتارك تلقاء وجوههم، ارتفع يا رب بقوتك، نُرنم وتُنغّم بجبروتك " ( المزمور 21/1 - 3 ).
يقول فخري عطية في كتابه "دراسات في سفر المزامير": " إن المسيح هو المقصود بهذا المزمور" ووافقه كتاب " تأملات في المزامير " لآباء الكنيسة الصادر عن كنيسة مار جرجس باسبورتنج.
وقولهم صحيح، فقد حكى المزمور العشرون عن دعاء المسيح وعن استجابة الله له، ويحكي هذا المزمور ( 21 ) عن فرحه بهذه الاستجابة " يا رب بقوتك يفرح الملِك، وبخلاصك كيف لا يبتهج جداً... نُرنم وننغّم بجبروتك ".
وينص المزمور أن الله أعطاه ما سأله وتمناه " شهوة قلبه أعطيته، وملتمس شفتيه لم تمنعه،.. سألك فأعطيته "، وقد كان المسيح يطلب من الله النجاة من المؤامرة " إن أمكن فلتعبر عني هذه الكأس " ( متى 26/39 ).
ويذكر المزمور أن الله أعطاه حياة جديدة طويلة إلى قبيل قيام الساعة " حياةً سألَكَ فأعطيتَه، طول الأيام، إلى الدهر، والأبد"، كما وضع عليه إكليل حياة، وهو غير إكليل الشوك الذي وضع على المصلوب، يقول المزمور: "وضعت على رأسه تاجاً من إبريز حياة".
ويحكي المزمور عن أعداء المسيح الذين تآمروا عليه وفكروا في " مكيدة لم يستطيعوها " فهم لم يلحقوا الأذى به، فقد فشلت المؤامرة، لأنه رُفع " ارتفع يا رب بقوتك ".
وأما هؤلاء الأعداء: فترجع مكيدتهم عليهم " تصيب يدك جميع أعدائك، يمينك تصيب كل مبغضيك.. الرب بسخطه يبتلعهم، وتأكلهم النار، تبيد ثمرهم من الأرض، وذريتهم من بين بني آدم.. تفوق السهام على أوتارك تلقاء وجوههم ".
خامساً: المزمور الثاني والعشرون:
وفيه: " إلهي إلهي لماذا تركتني بعيداً عن خلاصي؟ عن كلام زفيري؟ إلهي في النهار أدعو فلا تستجيب، في الليل أدعو فلا هدوّ لي. وأنتَ القدوس الجالس بين تسبيحات إسرائيل، عليك اتكل آباؤنا. اتكلوا فنجيتهم. إليك صرخوا فنجوا. عليك اتكلوا فلم يَخزَوْا.
أما أنا فدودة لا إنسان. عارُُ عند البشر، ومحتقرُ الشعب. كل الذين يرونني يستهزئون بي. يفغرون الشفاه، ويُنغضون الرأس قائلين: اتكل على الرب فلينجه.
لينقذه، لأنه سُرّ به، لأنك أنت جذبتني من البطن. جعلتني مطمئناً على ثديي أمي. عليك ألقيت من الرحم. من بطن أمي، أنت إلهي. لا تتباعد عني لأن الضيق قريب. لأنه لا معين. أحاطت بي ثيران كثيرة، أقوياء باشان اكتنفتني. فغروا علىّ أفواههم، كأسد مفترس مزمجر. كالماء انسكبتُ.
انفصلتْ كل عظامي. صار قلبي كالشمع. قد ذاب في وسط أمعائي. يبستْ مثل شَقفَة قوتي. ولصق لساني بحنكي، وإلى تراب الموت تضعني. لأنه قد أحاطت بي كلاب. جماعة من الأشرار اكتنفتني. ثقبوا يدي ورجلي. أُحصى كل عظامي. وهم ينظرون ويتفرسون فّي. يقسمون ثيابي بينهم، وعلى لباسي يقترعون". (المزمور 22/1-18).
ويُجمع النصارى على أن هذا المزمور بنوءة عن المسيح، فقد أحالت عليه الأناجيل يقول متى: " ولما صلبوه اقتسموا ثيابه مقترعين عليها، لكي يتم ما قيل بالنبي: اقتسموا ثيابي بينهم، وعلى لباسي ألقوا قرعة " ( متى 27/35 ) ومثله في ( يوحنا 19/24 )، والإحالة إلى هذا المزمور في قوله " يقسمون ثيابي بينهم، وعلى لباسي يقترعون "
كما أن الرواية التي في المزمور توافق رواية الصلب في صراخ المصلوب: " إلهي إلهي لماذا تركتني " ( متى 27/46 ) ( مرقس 15/34 ).
ويوافق نص المزمور ما جاء في الأناجيل في بيان حال المصلوب " كان المجتازون يجدفون عليه، وهم يهزون رؤوسهم قائلين: يا ناقض الهيكل وبانيه في ثلاثة أيام، خلص نفسك، إن كنت ابن الله فانزل عن الصليب، قد اتكل على الله فلينقذه الآن إن أراده " ( متى 27/39 - 43 ) فهذا يشبه ما جاء في هذا المزمور " محتقر الشعب، كل الذين يرونني يستهزئون بي .. وينغضون الرأس قائلين: اتكل على الرب، فلينجه".
كما يوافق النص الأناجيل كرة أخرى في قوله " جماعة من الأشرار اكتنفتني، ثقبوا يدي ورجلي، أحصي على عظامي " فهي تدل على أخذ المصلوب يوم سُمرت يداه ورجلاه على الصليب.
لهذا كله كان إجماع النصارى على أن هذا المزمور نبوءة عن حادثة الصلب، خاصة أن داود لم يمت مصلوباً، فهو إذن يتحدث عن غيره.
والحق أن المزمور نبوءة عن المصلوب، لكنه ليس عيسى، بل الخائن يهوذا الأسخريوطي، فنراه وهو جزع، يائس، يصرخ: " إلهي، إلهي، لماذا تركتني؟"، المزمور نبوءة عن المصلوب اليائس الذي يدعو فلا يستجاب له "إلهي، في النهار أدعو فلا تستجيب، في الليل أدعو فلا هُدوّ لي.. عليَك اتكل آباؤنا فنجيتَهم، عليك صرخوا فنجوا، عليك اتكلوا فلم يخزوا. أما أنا فدودة لا إنسان... "
ويصف المزمور المصلوب بأنه " دودة لا إنسان، عارُُ عند البشر، محتقَرُ الشعب " فمَن هو هذا اليائس الموصوف بأنه دودة، وأنه عار عند البشر، وأنه محتقر، وأنه لا يستجاب له؟
إنه يهوذا، حيث جعلتْه خستهُ وخيانتهُ كالدودة، وأصبح عاراً على البشر، كلَّ البشر، المسلمين واليهود والنصارى، بل وحتى البوذيين وغيرهم، لأنه خائن، والخيانة خسة وعار عند كل أحد، يحتقره الشعب، ولا يستجيب الله دعاءه.
ولا يقبل بحال أن يوصف المسيح بأنه دودة، والعجب من أولئك الذين يدعون ألوهيته كيف يستسيغون تسميته بدودة، بل الدودة هو الخائن يهوذا.
ثم كيف يوصف المسيح بالعار، وهو مجد وفخر للبشر؛ بل العار هو يهوذا، ونلحظ أن النص يصفه بالعار ليس فقط عند جلاديه وأعدائه، بل عند البشر جميعاً، ولا يمكن أن يكون المسيح كذلك، بل تفخر البشرية أن فيها مثل هذا الرجل العظيم الذي اصطفاه الله برسالته ووحيه.
كما نلحظ أن كلمة "عار" تلحق بالشخص نفسه، لا بالصلب الواقع عليه، فهو العار، وهو الدودة.
وكيف يكون المسيح عاراً وهو الذي يفخر به بولس في قوله " وأما من جهتي فحاشا أن أفتخر إلا بصليب ربنا يسوع " ( غلاطية 6/14 ) فلم الفخر به إن كان عاراً ؟
وأما وصف المصلوب بأنه " محتقر الشعب" فهو وصف ينطبق على المصلوب وكلمة " الشعب " تشير إلى اليهود وأولئك الذين حضروا الصلب، وكانوا يحتقرون المصلوب.