وداد مشرفة عامة
عدد المساهمات : 3919
اعلام الدول :
مزاج العضو :
| موضوع: الاستقلال والطرابيش الأحد ديسمبر 19, 2010 7:25 pm | |
| الاستقلال و الطرابيش
[size=24] [size=21]قرأت منذ أمدٍ غيرٍ بعيدٍ مقالاً لأديبٍ قام يعترضُ ويحتجُّ فيه على ربّان وموظفي باخرةٍ فرنسيّةٍ أقلّته من سورية على مصر. ذلا لأن هؤلاء قد أجبروه، أو حاولوا إجباره على خلع طربوشه أثناء جلوسه إلى مائدة الطعام، وكلّنا يعلم أنَّ خلع القبّعات تحت كلِّ سقفٍ عادةٌ مرعيّةٌ عند الغربيين.ولقد أعجبني هذا الاحتجاجُ، لأنّه أبانَ لي تمسّكَ الشّرقي برمزٍ من رموزٍ حياته الخاصّة.أعجبتُ بجرأةِ ذلكَ السّوري، كما أعجبتُ مرّة بأميرٍ هنديٍّ دعوتُه إلى حضور روايةٍ غنائيةٍ في مدينة ميلانو في إيطالي، فقال لي: "لو دعوتني إلى زيارةِ جحيم ِدانتي لذهبتُ معك مسروراً، ولكنّي لا أستطيع الجلوسَ في مكانٍ يحظّرون فيه عليّ استبقاءَ عمامتي وتدخين اللفائف".أجل، يعجبني أن أرى الشّرقيَّ متمسّكاً ببعض مزاعمه، قابضاً ولو على ظلٍّ من ظلال عاداته القوميّة.ولكنّ إعجابي هذا، لا، ولن يمحوَ ما وراءه من الحقائقِ الخشنةِ المتشبثةِ بذاتيّة الشّرقِ، ومنازع الشّرقِ، ومزاعم الشّرق.لو فكّر ذلك الأديبُ الّذي استصعبَ خلعَ طربوشِه في الباخرةِ الإفرنجيّةِ، بأنّ ذلك الطّربوشَ الشّريفَ قد صُنِعَ في معملٍ إفرنجيّ، لهان عليه خلعه في أي مكانٍ في أيّة باخرةٍ إفرنجيّةٍ.لو فكّرَ أديبُنا بأنّ الاستقلالَ الشّخصيّ في الأمورِ الصَّغيرةِ كان، وسيكونُ رهن الاستقلالِ الفنّي، والاستقلالِ الصناعيّ، وهما كبيران، لخلعَ طربوشَه ممتثلاً صامتاً.لو فكّرَ صاحبُنا بأنَّ الأمَّةَ المستعبدةّ بروحِها وعقليّتها، لا تستطيعُ أن تكونَ حرَّةً بملابسِها وعاداتِها.لو فكّرَ بذلكَ لما كَتَبَ مقالَه معترضاً.لو فكَّرَ أديبُنا بأنَّ جدَّه السّوريّ كان يبحرُ إلى مصرَ على ظهرِ مركبٍ سوريٍّ مرتدياً ثوباً غزلتْه، وحاكتْه، وخاطتْه، الأيدي السّوريةُ لما تردّى بطلُنا الحُرُّ إلا بالملابسِ المصنوعةِ في بلادِه، ولما ركبَ سوى سفينةٍ سوريّةٍ ذاتِ ربّانٍ سوريٍّ، وبحّارةٍ سوريّين.مُصابُ أديبِنا الشّجاعِ أنّه قد اعترضَ على النّتائجِ ولم يحفلْ بالأسبابِ، فتناولتْه الأعراضُ قبل أن يستميلَه الجوهرُ، وهذا شأنُ أكثرِ الشّرقيينَ الّذين يأبون أن يكونوا شرقيّين إلا بتوافِهِ الأمورِ وصغائرِها، مع أنّهم يفاخرونَ بما اقتبسوه من الغربيّينَ ممّا ليسَ بتافِهٍ أو صغير.أقولُ لأديبِنا، وأقولُ لجميعِ المُتَطرْبشين: ألا فاصنَعوا طرابيشَكُمْ بيدكم، ثمّ تخيّروا في ما تفعلونَه بطرابيشِكمْ على ظهر الباخرةِ، أو على قمّةِ الجبل، أو في جوفِ الوادي.وتعلمُ السّماءُ أنَّ هذه الكلمةَ لم تُكْتَبْ في الطّرابيشِ، أو في شأْنِ خَلْعِها، أو استبقائِها على الرؤوسِ تحتَ السّقوفِ، أو تحتّ المجرّة. تعلمُ السّماءُ أنّها كُتِبَتْ في أمْرٍ أبعدَ من كلِّ طربوشٍ، فوق كلِّ رأسِ، فوق كلِّ جثّةٍ مختلجةٍبقلم جبران خليل جبران | |
|